تعدّدت معارض بول كلي في السنوات الأخيرة وسيطر غالباً على محاورها تلك التوأمية العضويّة بين الموسيقى والتّصوير. فهو كان موسيقياً ومصوراً، أو مصوراً موسيقياً، من أبرز تلك المعارض «بول كلي: البوليفوني» عام ٢٠١١ في مدينة الموسيقى في باريس ـ لافيليت. وأعيدت بهذه المناسبة طباعة كتاب قائد الأوركسترا الأول بيير بوليز والخاص بفناننا تحت عنوان: « بول كلي، وأرضه الخصبة» وأعيد توزيعه بالتالي بكمية هائلة مع افتتاح بناء فيلهارموني باريس. في كل مرة يطرح موضوع التواصل بين الفنين يكون مثال كلي في مركز البحوث الجادة، والمؤتمرات، والكتب. كما كانت الحال مع المعرض البانورامي الذائع الصيت الذي أقامه متحف الفن المعاصر بومبيدو: «الصوت والضوء»، أقيم قبل ذلك في عام ٢٠٠٤ والسبب هو أنه ولد عام ١٨٧٩ من عائلة موسيقية ألمانية مقيمة في برن (سويسرا) تابع فيها دراسته ما بين ١٩٨٦ و ١٩٩٦ وبدأت والدته عازفة البيانو المعروفة بتعليمه أصول فن عزف الكمان منذ عمر السابعة، ولكنه وبصيغة موازية كان يمارس بجد الرسوم الخطية الحرة في كراسات مبكرة. لذلك ما أن استقرت العائلة في ميونيخ حتى بدأ بمتابعة تعلمه الرسم في شكل منهجي، وذلك رغم احترافه ودراسته الجدية للعزف ووجوده كعضو أساس في فرقة البلدية المركزية محاولاً في البوزار تطوير فن الطباعة على المعدن (الحفر على الزنك وسواه)، وتحويل فن الكاريكاتور إلى صيغة تشكيلية ساخرة، وهنا نعثر على محور المعرض الجديد، الذي طالما أهمل سابقاً، وهو تبيان الجانب الساخر العبثي أو الدادائي التهكمي في ما يقرب من منتصف سيرته الفنية منذ البداية. ثم نهايته الحزينة. يقام المعرض الاكتشافي الجديد في متحف الفن المعاصر بومبيدو مستمراً حتى أول آب (اغسطس) تحت عنوان «بول كلي واللوحة الساخرة أو التهكمية» اهتم المعرض بلوحاته التي تلامس هذا الموضوع، وهي غالبة على إنتاجه، واستثنيت لوحات التوليف الموسيقي التي أشبعت دراسة في المعارض السابقة. وخلال تدرسيه في الباوهاوس. استهل تدريبه بممارسة الكاريكاتور منذ عام ١٩٠٢. ولكنه إبتدأ فعلياً ـ وفق رأي المعرض - الطابع الساخر منذ البداية بخرق قدسية أنواع الفنون، والتحول الدائم من التجريد إلى التشخيص وبالعكس، وتجاوز كل ما هو تقليدي في هذا الترتيب، فهو فنان تعدّدي، لا يمكن تصنيفه نقدياً بطريقة أحادية مثل سواه، ولا يمكن الإمساك بحدود اختصاصه منذ عمر الثالثة والعشرين. هو ما يعيدنا إلى مبررات الصبوة التوليفية: الموسيقية -التشكيلية، يؤكد المعرض على توليفية أخرى مع عرائس المسرح النقدي أو الساخر. فمجموعة عرائسه التي صمّمها بتقنية حرة لا تقل تأثيراً وتلغيزاً وأصالة عن بقية أعماله. أشهرها الأوتوبورتريه الذي نحت فيه نفسه وكان قبل ذلك سخر من وجهه في أوتوبورتريه آخر لا يقل عمقاً سماه «التأمل». لعل أبرز مكتشفات المعرض هو مشاركته في نشاط الحركة الدادائية في ميونيخ، هي النزعة البالغة العبث والسخرية من كل ما هو موروث وثابت وذلك عام ١٩١٠ أي إثر شراكته في تأسيس جماعة الفارس الأزرق مع كاندينسي وفرانز مارك وماك. ثم نجده عندما سافر إلى إيطاليا يهتم بتقاليد عرائس المسرح الروماني - الإغريقي، ثم يستغرق في رسوم الأطفال. من أشهر تصاميم عرائسه: الأوتوبورتريه عام ١٩٢٢ والشاعر المتوج عام ١٩١٩ ثم المهرج بآذان ممتدة عام ١٩٢٥. ثم أنه في عدد من رسومه ذات التهشيرات الخطية المضاعفة يصور راقصين شعبيين على الطريقة التهكمية الآسيوية (الصينية). نلاحظ داخل تطور أسلوبه نفسه إزدواجية ساخرة، ففي الوقت الذي تمثل مقامات ألوانه أرهف الدرجات اللونية الضوئية السديمية، يقابلها بنائية تكعيبية راسخة، بتأثير مدير مدرسة الباوهاوس (التي كان يدرس فيها الرسم على الزجاج) المهندس غروبيوس، وبتأثير المسؤول الثاني الفنان فيننغر، واحتكاكه بتكعيبية باريس خلال وجوده فيها عام 1905 وتعرفه على روبير دولونوي، ونشوء صداقة متينة بينهما دعاه إثرها الى معرضين في مدرسة الباوهاوس في داسو في ألمانيا حيث استقر كلي. ما هو أشد بنائية، طبعت تكوينات كلي هي استخدامه لنظام رقعة الشطرنج المتعامدة في رصف الألوان والأشكال. تزامنت هذه العقيدة الشطرنجية مع هندسات موندريان في أمستردام. ومن جديد كان يستعيد مخبرياًَ رسوم الأطفال التي كان يجمعها بحرص وحنو كبيرين. يقترب في تفسيره لها من سوريالية ميرو. وأبلغ مثال لوحة «البستانية الحسناء». أبرز لوحاته البنائية: «طريقة رئيسية وطريق فرعية» أنجزها خلال إقامته في مصر الفرعونية بعد إقامته في تونس لفترة، من المثير للانتباه أن اللوحات التي استخدم فيها حروف الخط العربي من دون معرفته معناها، تعتبر ساخرة في المعرض. وبعد انشغاله سنوات بالتواصل السعيد مع الموسيقى عاود السخرية بغضب خطي أكبر مع سيطرة النازية، إبتدأت بتفتيش منزله عام ١٩٣٣ واضطر بعد ١٩٣٧ أن يهاجر إلى برن، وعند إحراق ما سماه هتلر بالفن الفاسد وكان ضمن المحروقات ما يشّرف كلي: 17 لوحة من لوحاته. توفي عام ١٩٤٠ في منفاه السويسري.
مشاركة :