يختلف خبراء الاقتصاد في كثير من الأمور، لكن من النادر أن تجد أحدهم لا يعتقد أن مقولة «هذه المرة مختلفة» القديمة في عالم المستثمرين هي واحدة من أخطر المقولات المتناقلة في الأسواق. إذن، لماذا يكون الرد دائماً بـ «نعم، ولكن»، عند الحديث عن سلوك شوهد أخيراً لظاهرة بعينها في السوق مشهورة بقوتها التنبؤية بالركود؟ تعرف الظاهرة محل الحديث بانعكاس منحنى العائد، أي الخط المرسوم بين عوائد سندات الخزانة الأمريكية على اختلاف آجال استحقاقها، وعادة ما يكون بين عوائد السندات لأجل عامين و10 أعوام. وعادة ما ينحدر المنحنى إلى الاتجاه الصاعد ليعكس ازدياد مخاطر الإقراض لأجل طويل. لكن المنحنى يشي بتوقعات بانخفاض الفائدة لتحفيز النمو حينما ينعكس، أي عندما يتغير اتجاهه فتتراجع العوائد طويلة الأجل. وبالنسبة للبعض، فإن مجرد تراجع تكلفة اقتراض واشنطن لمدة 10 أعوام مقارنة باقتراضها لمدة عامين ينذر بثمة خطب ما، مع قبول المستثمرين بعوائد أقل لتحملهم مزيداً من المخاطر لأجل طويل. لكن بالنسبة لآخرين، فإن انعكاس المنحنى ذاته يبطئ الاقتصاد، بما أن المصارف من غير المرجح أن تمنح قروضاً طويلة الأجل لأن مكاسبها ستكون أقل في هذه الحالة. انعكس المنحنى قبل بداية كل من حالات الركود الست منذ عام 1980. وبالنسبة لحالات الركود الأربع منذ عام 1990، فقد عاد الانعكاس إلى شكل طبيعي قبل بداية الركود، وغالباً ما كان ذلك بسبب تراجع العوائد قصيرة الأجل وسط توقعات بخفض أسعار الفائدة. وبعد مضي أكثر من عامين من الانعكاس، انزلقت العوائد لأجل عامين دون مستويات عوائد السندات لأجل 10 أعوام قبل أسبوعين. ومع ذلك، بلغ مؤشر «إس آند بي 500» مستوى قياسياً جديداً، بعدما بدأ الاحتياطي الفيدرالي خفض أسعار الفائدة لمساعدة الاقتصاد الذي وصفه رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، بأنه «في حال جيدة». فهل الأمر مختلف هذه المرة؟ لا يعتقد ذلك من يؤمن من الخبراء بدلالة منحنى العائد. وغالباً ما يبدأ هؤلاء بالإشارة إلى السيكولوجية البشرية. وتبيع وول ستريت أحلام الاستثمار، لكن لا يحب أحد أن يكون أول من يذكر كلمة الركود. وقال غاري شيلينغ، الخبير الاقتصادي: «لقد طردت من عملي مرتين لتوقعي الركود، ولم يكن لصحة توقعاتي شأن بذلك». ويؤمن شيلينغ بالإشارة التي يبعث بها انعكاس المنحنى، لكنه حذر من أن تحركاته لا تشي دائماً بمدى حدة الركود المحتمل. تجدر الإشارة أيضاً إلى حقيقة مفادها أن انتعاش سوق الأسهم قد يتزامن مع تحذيرات سوق السندات. ففي عام 2000، بدأ انعكاس المنحنى قبل أكثر من شهر من بلوغ مؤشر «ناسداك» قمته في مارس من ذلك العام، وانتهى قبل 3 أشهر من بداية الركود في مارس 2001، وفق المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية وهو الفيصل في الدورات الاقتصادية الأمريكية. وفي عام 2006، تبقت لمؤشر «إس آند بي 500» مكاسب بنحو 20% عندما بدأ انعكاس المنحنى في يونيو. ولم تبلغ الأسهم ذروتها إلا في أكتوبر 2007، أي بعد 4 أشهر من عودة العوائد إلى طبيعتها وقبل شهرين من بداية الركود. وبحسب ديفيد روزنبيرغ، مؤسس «روزنبيرغ ريسيرش»، والذي ينظر إليه باعتباره أحد المتشائمين في وول ستريت، فإن «أغلب خبراء الاقتصاد بدأوا الحديث عن الركود في سبتمبر 2008، دون أن يدركوا أن الأزمة المالية لم تكن هي التي سببته، وإنما الفيدرالي، وفاقمت الأزمة من الأمر». وكان روزنبيرغ داعماً لفكرة القوة التنبؤية للمنحنى في تلك المرة، ويعتقد أن الركود محتمل هذه المرة أيضاً. وليس من المفيد ألا يكون هناك سوى اتفاق ضئيل على ماهية منحنى العائد الذي تجب متابعته. وفي حين يتابع الكثيرون منحنى العائد بين السندات لأجل عامين و10 أعوام، فإن الكثير من خبراء الاقتصاد يفضلون البدء بأذون الخزانة الأمريكية لأجل ثلاثة أشهر. حتى أن باول نفسه طرح فكرة متابعة منحنى يشمل 18 شهراً فقط خلال كلمة له ألقاها بعام 2022. وتتابع مجموعة استراتيجية الاستثمار الخاصة في «غولدمان ساكس»، والتي تقدم المشورة لأكثر عملائها ثراءً، 4 منحنيات مختلفة، تشهد جميعها انعكاساً في الوقت الراهن، لكن لا يتمثل السيناريو الأساسي لديها في وقوع ركود. وتساءل بريت نيلسون، رئيس قسم التخصيص التكتيكي للأصول لدى «غولدمان ساكس»: «السؤال الأبرز هو، هل ستعود نهاية الانعكاس إلى احتمالية أن الفيدرالي سيدفع بالاقتصاد نحو هبوط سلس، أم لأن الفيدرالي متخلف عن الركب؟». ودائماً ما يكون هناك أمر يجعل «هذه المرة مختلفة». ففي عام 2000، كانت طفرة التكنولوجيا تغير وجه الاقتصاد. وفي عام 2006، أبقت المشتريات الصينية واليابانية من السندات طويلة الأجل على انخفاض عوائدها. لكن هذه المرة، تشمل الأسباب حدة التضخم الناجم عن الجائحة. ولفت فريد كارستنسن، المؤرخ الاقتصادي لدى جامعة كونيتيكت، إلى أن «لنا في التاريخ آيات وعلامات». وللمفارقة، تكمن المشكلة في استمرار تفكير الناس في الجوانب التاريخية لانعكاس المنحنى، بدلاً من الاهتمام بالديناميكيات على المدى القصير. عموماً، يتعين على المستثمرين استغلال أموالهم وأن يأملوا ألا يتضرروا كثيراً، بغض الطرف عمن ستكون له الغلبة في النهاية، بينما يواصل خبراء الاقتصاد جدالاتهم. وذكر بريان والين، كبير مسؤولي الاستثمار لدى شركة تي سي دبليو لإدارة الأصول: «لقد تأجل موعد الركود. ولكننا لا نعتقد أننا سنتفاداه». وأضاف: «إذا كنا مخطئين وشهدنا هبوطاً سلساً، فلن نكون متفاجئين كثيراً، ففوارق الائتمان ضيقة. وإذا كنا مصيبين، فسيكون ذلك مكسباً كبيراً لصالحنا. وهذه الاحتمالات جيدة، في النهاية». تابعوا البيان الاقتصادي عبر غوغل نيوز كلمات دالة: FT Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :