تخلت ديانا ابنة الـ24 ربيعاً عن أحلامها وعن «خطط» حياتها. فهي كانت ترغب في التخرج من الجامعة والزواج وشراء منزل في الضواحي والإنجاب واقتناء كلب وقطة، وأملت ببلوغ هذه الأهداف لدى بلوغها الثلاثين. لكن بلوغ هذه المآرب تعذر. وهي تركت الجامعة الخاصة في عامها الثاني بعدما راكمت ديوناً مقدارها 80 ألف دولار، في 2009. واليوم تعمل في مقهى «دانكن دونتس». «كان يلزمني 5 أعوام لحيازة شهادة جامعية. وعند التخرج ليست الوظيفة في المتناول، وقد لا أجد وظيفة تعجبني أو تناسب مؤهلاتي. رئيسي في العمل يقول إن بعض الناس خلقوا لإعداد القهوة، وربما أنا واحدة منهم». ثمة شباب كثر مثل ديانا يسعون إلى ولوج عالم الرشد في عالم تشح فيه الوظائف، وترتفع كلفة التعليم وتتقلص شبكات الدعم الاجتماعي. فاليوم، تقتصر نسبة المتزوجين على 20 في المئة من الشريحة العمرية بين 18 و29 سنة، في الولايات المتحدة. وتميل الشابات والشبان إلى التأخر في مغادرة منزل الأهل، وإلى دراسة جامعية طويلة، وعدم الثبات في العمل، والتأخر في تأسيس عائلة. وقد يحسب كثر من الراشدين أن هذه الميول هي صنو الحرية. والحسبان هذا يخالف خلاصة مقابلاتي مع أكثر من 100 عامل وعاملة في سن تتراوح بين 20 و30 بين عامي 2008 و2010، في منطقتي لويل وريشموند في فيرجينيا. والشباب هؤلاء يعملون في محطات الوقود وسلسلة مطاعم المأكولات السريعة، وفي أشغال موقتة. ومع انكماش القطاع الصناعي وأفول الحاجة إلى اليد العاملة، تتبلور أشكال جديدة لعالم الرشد. ولا شك في أن الإحصاءات رصدت مشكلات الشباب والشابات الاقتصادية، ووثقتها، لكن ما فات الدراسات هذه هو ما سمّاه الباحثان في الاجتماعيات ريتشارد سنيت وجوناثن كوب، في 1972 «الجروح الخفية»، أي الأكلاف الاجتماعية التي يتكبدها شباب الطبقات العاملة حين يسعون إلى صوغ معاني حياة الرشد ورسم أطرها، فالشباب يتنقلون بين وظيفة موقتة وأخرى، ويتركون الجامعة لأنهم عاجزون عن اللحاق بركاب التحصيل العلمي أو لأنهم لم يقعوا على الاستمارة التي تخولهم الحصول على مساعدة مالية، وهم يلجأون إلى بطاقات الائتمان عند حصول طارئ طبي، ويتفادون الالتزام العاطفي بسبب عجزهم عن الاعتناء بشخص آخر وتأمين حاجاته المادية. ويتعاظم انفصال الشباب عن مؤسسات العمل والعائلة والجماعات، وهم إذ يبلغون سن الرشد يدركون أن مترتبات التعويل على الغير سلبية، فعلى سبيل المثل، طرد جاي من الجامعة إثر تغيبه عن عدد من الحصص الدراسية بسبب إصابة والدته بانهيار عصبي. وهو اضطر إلى العمل طوال سنة ثم قصد إدارة الجامعة وقدم عريضة تطالب بقبوله طالباً مجدداً، فلقي جواباً مهيناً كما يقول: «عملهم (أعضاء مجلس الإدارة) يقضي بسماع قصص حزينة من هذا النوع. وأفهم تبرُّمهم لكن موقفهم لا يحتمل، فنبرة أحدهم لم تتستر على السخرية، وهو يقول: «نعم بالتأكيد، أمك كانت منهارة، ولم يكن في وسعك اللجوء إلى أحد». وليس ولوج عالم الرشد وتحصيل شاراته -التحصيل الجامعي والاستقلال بالسكن والزواج والعمل- مؤجلاً فحسب، فوجه العالم هذا يتغير، وتتغير معه أشكال الثقة بالآخر ومبادئ مثل الكرامة والواجب وشكل العلاقات والارتباط. وأفلح جاي في العودة إلى مقاعد الدراسة، وأمضى في الجامعة 7 سنوات. لكنه عند تخرجه كان لا يزال يعمل في المطاعم والمقاهي. وهو اليوم في الـ28 من العمر، ولا يزال في حيرة من أمره يتساءل عن السبيل إلى ربط دراسته التسويق بمهنة يعتد بها، وانعقاد ثمار الدراسة. «أشعر بأن العالم كذب عليّ بشعارات من نوع أن العالم في متناولك وفي مقدورك أن تكون ما تشاء. يوم كنت في الـ16 من العمر لم أكن لأتخيل حياتي على هذه الشاكلة. كنت أحسب أنني سأقصد العمل يومياً مرتدياً بزة، وسأقتني أشياء مثل بيت وسيارة. اليوم جعبتي خاوية من كل شيء»، يقول جاي. ويشكو عدد كبير من الشباب تخلي المؤسسات عنه، سواء كانت مؤسسات تربوية أو النظام الصحي أو أرباب العمل أو الحكومة. والتخلي هذا يجلو على صورة الغش والخداع. ويبدأ كريستوفر شرح ما يقصده بالخداع قائلاً: «على سبيل المثل أتلقى اتصالاً هاتفياً يبلغني الفوز باشتراك مجاني بمجلة «ماكسيم». وبعد أشهر أتلقى فاتورة باهظة في مقابل أعداد المجلة. لذا، صرت أخشى الرد على الاتصالات الهاتفية، فالعزلة هي السبيل الأمثل لحماية نفسي من الاحتيال والخداع». مثل هذه المخاوف يتسلل إلى دائرة الحياة العاطفية، فالارتباط هو حيز مغامرة. تقول كيلي ابنة الـ28، وهي مساعدة طباخ، أنها كافحت أعراض الكآبة طوال عشر سنين اضطرت فيها إلى الإقامة في سيارتها. واليوم، أفلحت في العثور على عمل وتمكنت من شراء شقة، لكنها تخشى أن تفقد حس الأمان وأن تسمح لآخر بالدخول إلى حياتها. «أحب فكرة مشاركة حياتي مع آخر، لكنني أعجز عن وضع ثقتي في أحد وأخاف أن يسرق أغراضي الشخصية». وغالباً ما يواجه الشباب معضلة عويصة، هي مشكلة العجز عن أداء دور المعيل. فبراندون يعمل بدوام ليلي في متجر ألبسة، ويقول إنه بالكاد يؤمن حاجاته الشخصية ولا يتخيل أن ترتضي امرأة مشاركته حياة تقتصر على مشاهدة التلفزيون وتناول الوجبات في «برغر كينغ». وشباب الطبقة العاملة إذ يعجزون عن تحصيل علامات الرشد مثل العمل الثابت والزواج يلجأون إلى العزلة، ويقيسون النجاح أو التقدم في الحياة بمقياس انقطاع أواصر العلاقات بالمؤسسات والآخرين. * باحثة في «هارفرد كينيدي سكول»، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 22/6/2013، إعداد منال نحاس
مشاركة :