من دون مبالغات او مزايدات او دخول في نظريات سياسية وأكاديمية، ألفت نظر علماء السياسة والاجتماع الى المعجزة السياسية التي قام بها أكثر من 20 مليون مصري في سيمفونية عزف جماعي في 30 حزيران ( يونيو) 2013 وما بعده وابتكار اول ثورة ديموقراطية مباشرة في تاريخ الانسانية وولادة حضارة جديدة للمصريين. بداية لا بد من اقرار حقيقة ان الحضارات تبنى على الإرادة وليس قهر الارادة. وجميع الحضارات انهارت عندما ارتكبت خطيئة (ذنب) العبودية فسقطت امبراطورية الفراعنة والبابليين واليونان القدمية وروما من بعدها. وكذلك جاءت ممارسات الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر حيث كررت الخطيئة نفسها التى أودت بها كقوى عالمية. وعندما جاء نظام حكم «الاخوان» جاء بفكر استعباد العقول تحت راية الدين وهو أخطر انواع الاستعباد فكانت نهايته عودة رائعة للديموقراطية المباشرة. تلك الديموقراطية التي تصور روادها في دول الغرب انها لا تكون الا بالاسلوب النيابي والوكالة، خصوصاً في ظل تنامي أعداد وأحجام الدول، وبالتالي فهي بكل المقاييس غير متصورة في مصر ذات التسعين مليون نسمة. لكن شعب مصر لم يرض ان تنتهي حضارته العريقة أو تفتت في عضده أية عوامل زمنية أو فصيلية، وأبى إلا بالحرية والازدهار، ورفض الانصياع لأي حكم يهدف الى «الوصاية» –حتى لو كانت دينية- مدركاً أنها شكل من أشكال العبودية. الدرس الذي قدمه الشعب المصري للعالم كله هو ان الديموقراطية المباشرة ممكنة، وأن عبقرية الانسان لا حد لها، وأن وعي الشعب المصري بوحدته وبدولته – أقدم دول العالم- أكبر من كل اغراءات المناصب او عجز السياسيين وكسل الأحزاب الفاشلة. قام الشعب المصري في 30 حزيران (يونيو) - وما زال- بثورة ديموقراطية تختلف عن ثورة «25 يناير» 2011. فالثورة الحالية تعرف معنى الديموقراطية المباشرة بشكل حق وأنه لا يشوبها أي خوف، وانها ثورة لا تهدف الى هدم مؤسسات الدولة الحقيقية (المؤسسات السيادية من جيش وشرطة ومالية -اقتصادية- وقضاء) لكنها ترفض الشخصنة في المؤسسات وتلفظ من لا يحترم ارادة الشعب ومن لا يعدل معه ويميز بين أفراده ويحتكر السلطات او يحتقر الشعب (ومؤسسة الرئاسة ليست هي الرئيس). أوضحت الثورة المصرية بأكثر من 20 مليون مصري ان الديموقراطية – بحق- حالة انسانية تتضمن كل نواحي الحياة وتتخذ منها سلوكاً ومنهجاً وتندمج فيها آمال الفئات والجماعات المختلفة، وتختلط فيها تصورات المستقبل بواقع الحاضر، وتتوحد فيها مشاعر الفرد مع المجتمع، وأن الحلم المستحيل يكون فيها قريب المنال، فبعض الأماني ممكنة. فكانت ثورة «30 يونيو» انتصاراً للنفس البشرية الحرة وتحقيقاً للعدل، وقضاءً على الاستبداد – أو كما يصفه الكواكبي الاستعباد - وانتهاء لسيطرة فئة ما على مصائر شعوبها، وأنه حان وقت حسابها. وتحقيق العدل الديموقراطي كحق لا بد من العلم والعمل لإدراكه، ففي تحقيقه حماية للفرد والمجتمع من الظلم والاحساس بالغبن وفقدان الأمن، وانماء روح العطاء والاحسان، وتأكيد قيم بعينها، على رأسها السلام وعدم العداء (حق الأفراد جميعاً في مستقبل لهم). وهكذا، اثبتت الثورة المصرية في يونيو أن سيادة الشعب لا تُفوض ويملكها طول الوقت ويستعيدها متى يريد. الدرس الثاني هو الايمان بعبقرية الانسان المصري الذي هو الأساس الأول لحضارات النيل وظهرت ابداعاته على مر عصوره وتواريخه، وأن عبقريتي المكان والزمان في مصر لم يكونا ليلغيان تميز المصري (ولكنهما طغيا عليها وظهرا عليها ربما «لوفرة» العنصر البشري في أنحاء متفرقة من العالم). وأدعي هنا – ولا أظن أنني أبالغ - أن الرسول الكريم اكتشف ذلك وأقره حين أوصى أصحابه بأهل مصر، ليس حرصاً على موقعها ولا لثرواتها أو لتاريخها أو تقديراً لدورها الديني، وإنما لأن بها «خير أجناد الأرض»... ولا نبالغ هنا إذا عممنا وصف الجنود ليشمل كل شعب مصر، فالعقل يدلنا على أن الفرع دليل على الأصل، وأنه لن يكون بالجنود خير إذا لم يكن ذلك في أصــولهم. ومن الضــروري هنا التوقف أمام أهم صفتين يحملهما الجند، فالجندية في مكوناتها الأولية هي نظام وروح، فإذا كانت الروح «من أمر ربي» كما قال جل وعلا، فإن شحذها وعلو همتها يحتاجان قوة ملهمة قد تكون بالقيم التي تبثها الأديان والأخلاق أو بالقيادة الواعية او بالحضارة المتأصلة في المصريين. أما النظام فيكون بتطبيق هذه المبادئ والقيم ودفع الروح في مسارها، وعندما يتلاقى النظام والروح تظهر الجندية بمعناها الحقيقي والتي نمت عليها حضارات مصر وازدهرت، وبفقدانها –أو أحد عناصرها- تتدهور حال البلاد وتسوء أوضاع العباد سواء كان لعبقرية الزمان والمكان دور -كما حدث في العصور الماضية - أو كان دورها قد انقرض. وهكذا وجدنا قدرة الانسان المصري على تغيير نفسه (وهي من اصعب المهام) ولا ننكر هنا «فضل» الرئيس –عن غير قصد- في ذلك من خلال ضرب المثل السيئ فنفرت منه نفس الانسان الفطرية الصحيحة، واجتمع شمل الشعب الذي فتتته الصعاب والعراقيل، فانتقل المصري بثورته الحالية من الانغلاق والانعزالية والاستبداد الفكري (والديني) لفئاته المختلفة والسلبية واللامبالاه والنفاق واحياناً اللاأخلاق والفساد والفوضى والانفلات الأمني/البلطجة واستغلال الفرص الى الايجابية والتمسك، أو على الاقل البحث عن الأخلاق الحقيقية والراوبط الاجتماعية والوعي الكبير والتمييز بين الحق والباطل ورفض الاستبداد وإدراك مفاهيم المواطنة المعقدة (وهي في أبسطها حق الجميع في وطن آمن ومعاملة متساوية وعادلة) والتفاؤل بالمستقبل وامتلاك ناصيته. ومن هذا المنطلق أناشد جموع الشعب بحقن دماء اخواننا –حتى ولو ضلوا- في رابعة العدوية والجيزة وغيرها من أماكن احتشاد، فهم من لم تنكشف عنهم الغمة.
مشاركة :