محنة المسيحيين واللبنانيين... عدمية بعضهم

  • 7/18/2013
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

في عام 1283 وصل وقع الخيل المملوكي إلى مشارف وادي قنوبين (شمال لبنان) وتقلص مسيحيو لبنان إلى واديه. أشارت بعض الكتابات التاريخية إلى تلك المرحلة بالقول: «لن تقوم لهم قائمة». لكنهم عادوا وانتصروا على جيش السلطنة المملوكية عام 1291 في معركة برج الفيدار. كذلك تكهن ضباط السلطنة العثمانية بعد أن أن أججوا النفوس التي سببت مجزرة 1840 بحق المسيحيين أنهم سيتمكنون من ضم جبل لبنان إدارياً وسياسياً إلى السلطنة العثمانية، لكن كانت لهم القائمقاميتان... وأعادوا الكرة عام 1860 فكان لهم المتصرفية، وأباد (الأتراك) من أبادوا في مجاعة 1914 فكان (للمسيحيين) لبنان الكبير. وتخيل من تخيل أن طريق القدس تمر في جونيه فكانت لهم مقاومة لبنانية لتعيد للمخطئين إمكانية انتفاضة الحجارة. في خضم كل هذه المشهدية التاريخية، حافظ المسيحيون على وجودهم لأنهم كانوا معنيين أولاً، وأصحاب حرية ثانياً، ويملكون ما يكفي من الشجاعة ثالثاً. كل ذلك يبعث على الرجاء... إن المسيحيين الذين حققوا لبنان لهم ولغيرهم، ما كانوا يوماً عدميين أو عبثيين. معنيون بمحيطهم ومشاكله، يناقشون أفكارهم في البلاط العباسي كما اليوم، يذهبون إلى خياراتهم انطلاقاً من قناعاتهم، فكان خيارهم الحرية لا التخفي خلف قناع الذمية. وكانت الشجاعة أن يحلموا ببناء وطن (على نواقصه) يكون أنموذجاً في محيطهم... فلا مانع أن ينتفض هذا المحيط ولو بعد مئات السنين ليبحث عن ربيعه. لا يفوح من هذا العيش التاريخي للمسيحيين إلا رائحة الرجاء والأمل اللذين انتصرا دوماً على الكراهية والحقد، كراهية وحقد يطفران من أحلام العاجزين لأن كره الآخرين واحتقارهم ما هما إلا انعكاس لكره الذات واحتقارها. هي المواجهة التاريخية بين القادر على البناء فينخرط في حركة التاريخ والواقع ويحاول (ولو أخطأ، وجَلَّ من لا يُخطئ) وبين عاجز يقبع متفرجاً، قانطاً يعكس ذميته على الآخرين. يأبى المحاولة، ويأبى الصمت. والكراهية تصبح على درجة من الخطورة إذا ما حاولت أن تغلف نفسها بالمعرفة السطحية وتتعامى عن جوهر الحقيقة. وجوهر الحقيقة أن المسيحي لم يقف يوماً متفرجاً على صراع يدور حوله، بل كان موجوداً وفاعلاً انطلاقاً من حقيقته. وحقيقته ترفض هذا الصراع السني – الشيعي العبثي حيث العنف سيد الموقف والغاية خارج خدمة الإنسان. الحقيقة أن المسيحي لم تُمنح له «ذات استقلال» لبنان وإنما أنشأها بنضالات جمة ومعاناة على مدى قرون وأثمان كبرى. صاغ استقلاله بدءاً بنهضة في مجال اللغة والأدب وصولاً إلى نمط حياة عبر عن نهضة إنسانية ترسخ أنموذج بناء دولة حديثة. ولم يعتش المسيحيون على هذا الاستقلال وإنما دعموه باقتصاد حر وإعلام حر وتربية سليمة وعيش بالعقل ومجتمع مدني. نمت هذه الإنجازات على أطراف الإبداع المسيحي الذي لا تعوض عنه لا الإمكانات المادية ولا الثروات النفطية ولا مجوهرات بلاد فارس. هكذا صُنع لبنان. صنعه من يجرؤ وليس من يخاف، وقد تعود أجدادنا على القول: «من يخفْ من الموت يؤْتَ من الخوف». ولبنان، كما تصوره مسيحيوه، لم يُصنع لأجل الأقليات بل صُنع لأجل الأكثريات (والأكثريات الوهمية تتهاوى اليوم في كل المحيط)، ومن أجل خلق الأكثريات وهذا هو جوهر الديموقراطية. ومفهوم الأقلية هو مفهوم الخوف، والخوف هو الموت. لذلك من خاف صار ذمياً، ومن لم ينظر إلى نفسه كأقلية بنى وطناً اسمه لبنان. إنه رفض المسيحي للنظرة الطائفية الضيقة تتغلغل في خوفها الذاتي لتراه منضوياً تحت «لواء سني» أو محتمياً بـ «مظلة شيعية». إنه تطلع مسيحي إلى نظرة واقعية «تدعو الخائف إلى التفلت من عقدة الذنب» وتحقق طموحاته التاريخية في بناء الوطن كياناً نهائياً فيه الدولة وسيلة كرامة للإنسان. ويرحب المسيحيون بكل من ينضوي تحت هذا اللواء. وهذا ما يجعل استثناء المسيحيين من الصراع السني – الشيعي طبيعياً، فما هو هدف هذا الصراع وموضوعه ومعناه في لبنان والمنطقة ككل إلا الكشف عن الخراب والدمار وكوكبة من المشاكل تُدار بالحديد والنار وبصيحات الكراهية وتؤدي حتماً إلى رائحة الموت وثقافته، رائحة امتهنها حارس مستبد طوال عشرات السنين، فما يمكن أن ينضح إناء إلا بما فيه. والمتفرج القانط يلجأ للتعداد ليقنع نفسه، والتعداد للماشية، فما بال بعضهم يغرق في الـ «كم»، ويتناسى أن الحضور المسيحي يتمحور على القيمة المطلقة للإنسان والحرية؟ وإذا كان من رسالة، فهي تستند إلى محور هذه القيم لا إلى شيء آخر، شهادة لها لا اعتياشاً عليها. لقد بذل المسيحيون كل غالٍ وثمين للدفاع عن لبنان وللحفاظ عليه. علَّ وعسى أن يرعوي كل كاره لذاته وللآخرين أن يمسه بمفردات الكراهية والاستهزاء، وأن يعالج هذه المعاني في نفسه كي لا يضطرب أمام أي جمال فيسعى إلى تشويهه. فريدون من نوعهم، القابعون في خوفهم يتفرجون. وتدفعهم ذميتهم إلى الكلام علهم يتخلصون من الذنب.

مشاركة :