الذكاء الاصطناعي بات ثنيوي الوظيفة فهو يعمل من جهة كأداة قوية لتعزيز قدرات البشر على القيام بمهام محددة تتطلب مدخلات وتوجيهات بشرية كتحليل البيانات والإجابة عن الأسئلة أو الترجمة ومن جهة أخرى يتطور ليعمل كوكيل بشكل مستقل يتعلم ليتخذ القرارات والإجراءات لتحقيق أهداف محددة مسبقاً دون تدخل بشري مستمر. من المهم التمييز بين تعريفي الأداة (Tool) والوكيل (Agent) لما لذلك من أهمية في صياغة السياسات والاستراتيجيات لإدماج الذكاء الاصطناعي في مختلف الصناعات والحياة اليومية للبشر. فالأداة هي التي يتحكم فيها الإنسان بشكل كامل لإنجاز مهام معينة وأما الوكيل تكون له درجة من الاستقلالية حيث يتصرف نيابة عن المستخدم بمستوى معين من الحرية، فاليوم يمكن لأي مدرس أم مدرسة أن يدمج الذكاء الاصطناعي في عملية التعليم للطلاب حيث يستعمل الذكاء الاصطناعي كأداة للتعليم والأتمتة والتصنيف وإنشاء اختبارات تدريبية ومن ثم يمكن ترقية أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدما مثل Open AIs GPT-40 ومشروع Astra من Google بتكيفها مع أنماط التدريس وخلقها حياة خاصة تفاعلية بين الطلاب والمعلمين لتصبح وكلاء قادرين على العمل بشكل مستقل وتطوير المحتوى الخاص لكل طالب حسب احتياجاته. يعتبر مطار جون إف كنيدي في أمريكا من أكثر المطارات ازدحامًا في العالم، حيث يتعامل مع أكثر من 62 مليون مسافر سنويًا ويواجه المبنى رقم 4 فيه تحديات كبيرة في إدارة حركة الركاب والفحوصات الأمنية وصعود الطائرات مما قد يؤدي إلى تأخيرات تؤثر سلبًا على جدولة الرحلات. ويتعامل المبنى رقم 4، الذي تديره شركة JFKIAT، بمفرده مع ما يقرب من 22 مليون مسافر سنويًا. ومع هذا العدد الكبير من المسافرين، يصبح ضمان العمليات السلسة مهمة شاقة ومؤخرا قامت شراكة بينJFKIAT وWipro لمدة ثلاث سنوات بهدف دمج البيانات من مختلف الإدارات عبر منصة Azure من Microsoft، مما سيمكن من تحسين الرؤى والقرارات التشغيلية حيث سيسهم هذا النظام في تحليل البيانات في الوقت الحقيقي، مما يساعد في تحديد الاختناقات وتوقع أوقات الذروة وبالتالي تحسين جدولة الموظفين وتخفيض التكاليف. وسيعمل هذا النظام على التركيز على تحسين التجارب غير المتعلقة بالطيران وزيادة رضا الركاب. وهذا النوع من التعاون قد يمهد الطريق لمبادرات مشابهة في مطارات أخرى حول العالم، مما يعكس أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات في تحسين عمليات المطارات. وسيساعد الذكاء الاصطناعي AI في تحقيق مكاسب إنتاجية تحويلية في عديد من المهن وعلى سبيل المثال تشير الدراسات إلى أن الأطباء يقضون ما يقرب من 40 % من ساعات عملهم في كتابة الملاحظات، والذكاء الاصطناعي سيساعد في إعادة توجيه هذه الساعات لقضائها مع المرضى والتركيز على نتائجهم وبهذا سيتم مضاعفة عدد الأطباء بشكل فعال بين عشية وضحاها. وبحسب تقرير صادر عن شركة ديلويت بتكليف من MedTech Europe، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي يمكن أن توفر للأنظمة الصحية الأوروبية 1.8 مليار ساعة كل عام، وهو ما يعادل توفير 500 ألف متخصص إضافي في الرعاية الصحية بدوام كامل. وكمثال آخر على تطور الذكاء الاصطناعي من أداة إلى وكيل في مجال الرعاية الصحية روبوتات «Da Vinci» التي تقوم اليوم بإجراء العمليات الجراحية بمساعدة الطبيب حيث يمكن أن تتطور لتقوم بمهام طبية أكثر تعقيدًا مستقبلاً مثل إجراء التشخيصات الدقيقة أو التوصية بخطط العلاج بشكل شبه مستقل. وفي الصناعات التحويلية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعمل كوكيل ليقوم باتخاذ القرارات بشأن خطوط الإنتاج بشكل مستقل. حيث يمكن للنظام الذكي تحديد موعد إصلاح الآلات أو تغيير خطوط الإنتاج بناءً على البيانات التشغيلية وهذه القدرة تسمح بإدارة فعالة وتوجيه تلقائي لمختلف أجزاء العملية الصناعية وكمثال حي نجد اليوم مصانع Tesla تستخدم الروبوتات الذكية للتحكم في عمليات التصنيع وجمع البيانات في الوقت الفعلي لاتخاذ قرارات إنتاجية تلقائية. وفي مجال الصناعات الثقيلة مثل التعدين أو النفط والغاز، يمكن استخدام وكلاء الذكاء الاصطناعي المتعددين لتنسيق صيانة المعدات الثقيلة وإدارة المواد الخام وتحسين كفاءة الإنتاج. فكل وكيل يتخصص في جزء من العملية ولكنه يتواصل مع الآخرين لضمان سلاسة العمل. وكمثال تقدم شركة «C3 AI» التي تستخدم الذكاء الاصطناعي الأنظمة الذكية لتنسيق العمليات الصناعية، ومن المتوقع أن تتطور إلى وكيل متعدد لإدارة العمليات بأكملها. وفي مجال الزراعة، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحول من مجرد أداة تساعد المزارعين على مراقبة المحاصيل إلى وكيل قادر على إدارة الموارد بشكل مستقل. باستخدام مستشعرات البيانات والذكاء الاصطناعي حيث يمكن للنظام تحديد كمية المياه المناسبة للمحاصيل أو تحديد أفضل وقت للحصاد دون تدخل بشري. وفي مجال التمويل، يمكن للعديد من وكلاء الذكاء الاصطناعي أن يعملوا معًا لإدارة محافظ استثمارية معقدة. فأحد الوكلاء قد يكون مسؤولاً عن تحليل السوق، بينما آخر يتابع الاتجاهات الاقتصادية العالمية، وآخر يقوم بإجراء الصفقات. معاً، يمكنهم إدارة استثمارات ضخمة بشكل مستقل تقريبًا. تتطور التكنولوجيا الناشئة لأنظمة الوكلاء المتعددين بسرعة ويطفو للسطح اليوم مفهوم هندسة الوكلاء المتعددين للذكاء الاصطناعي والتي تقدم وعداً هائلاً في كيفية مشاركة الوكلاء المعلومات والتعلم بشكل أفضل وبناء العلاقات الهرمية للوكلاء لاتخاذ قرارات مستقلة تسهم في تطوير الاقتصاد وتحسين جودة الحياة. يشرح الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر في كتابه «الكينونة والزمان» أن مفهوم الأداة لا يقتصر على كونها شيئاً مادياً مستقلاً بل يرتبط بشكل جوهري بطريقة تعاملنا معها في الحياة اليومية فالأدوات تعرف من خلال استخدامها العملي فالمطرقة (المكونة من خشبة في نهايتها معدن) هي امتداد ليد الحرفي عند استعمالها لتشيكل عمل فني أو مهني ما. ونحن اليوم نشهد عصر ورحلة تحول الأداة إلى وكيل مستقل. ** - كاتب أمريكي
مشاركة :