مــن تواضـع لله رفعــــه

  • 5/6/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

قال تعالى: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون* والذين هم بآيات ربهم يؤمنون* والذين هم بربهم لا يشركون* والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون* أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون المؤمنون: 57 - 61. روى الترمذي في سننه من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة المؤمنون: 60، قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: (لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات). قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- في تعليقه على الآيات المتقدمة: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، أي: وجلون مشفقة قلوبهم، كل ذلك من خشية ربهم، خوفا من أن يضع عليهم عدله فلا يبقي لهم حسنة، وسوء ظن بأنفسهم ألا يكونوا قد قاموا بحق الله، وخوفًا على إيمانهم من الزوال، ومعرفة منهم بربهم وما يستحقه من الإجلال والإكرام، وخوفهم وإشفاقهم يوجب لهم الكف عما يوجب الأمر المخوف من الذنوب، والتقصير في الواجبات. ولقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اجتهادهم في الأعمال الصالحة، يخشون أن تحبط أعمالهم، وألا تقبل منهم، لرسوخ علمهم، وعميق إيمانهم، قال أبو الدرداء: لأن أعلم أن الله تقبل مني ركعتين، أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأن الله يقول: إنما يتقبل الله من المتقين المائدة: 27. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قال: قال عبدالله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قال: فقلت: لا، قال: قال أبي لأبيك: يا أبا موسى، هل يسرك إسلامنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه برد لنا، وأن كل عمل عملناه بعد نجونا منه كفافا رأسا برأس؟، فقال أبي: لا والله، قد جاهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلينا وصمنا وعملنا خيرا كثيرا، وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك، فقال أبي: لكني أنا والذي نفس عمر بيده، لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملناه بعد نجونا منه كفافا رأسا برأس، فقلت: إن أباك - والله - خير من أبي. قال ابن حجر: والقائل هو أبو بردة، وخاطب بذلك ابن عمر، فأراد أن عمر خير من أبي موسى، فعمر أفضل من أبي موسى، لأن مقام الخوف أفضل من مقام الرجاء، فالعلم محيط بأن الآدمي لا يخلو عن تقصير ما في كل ما يريد من الخير، وإنما قال ذلك عمر هضما لنفسه، وإلا فمقامه في الفضائل والكمالات أشهر من أن يذكرها. قال ابن القيم - رحمه الله -: والمراد أن المؤمن يخفي أحواله عن الخلق جهده، كخشوعه وذله وانكساره، لئلا يراها الناس فيعجبه اطلاعهم عليها، ورؤيتهم لها، فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله، وكم قد اقتطع في هذه المفازة من سالك! والمعصوم من عصمه الله، فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه، ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا في شيء، وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت: أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي وكان إذا أثني عليه في وجهه يقول: إني إلى الآن أجدد إسلامي في كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاما جيدًا. ومن الناس من إذا نصحته في أمر ما قال: نحن أحسن من غيرنا بكثير، غيرنا لا يصلي، ويفعل الموبقات، ونحن نصلي ونصوم ونؤدي فرائض الإسلام، فيقول هذا معجبا بعمله، ومثل هذا يذكر بقول الله تعالى: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين الحجرات: 17. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله). قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير، لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدًا فيها، إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله، فيكون أبدا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا، إلا وجد من أهلها من هو أخس حالاً منه، فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده. ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان المثل الأعلى في التواضع، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا خير البرية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ذاك إبراهيم - عليه السلام). وعمر -رضي الله عنه- كما في الأثر السابق، الخليفة الثاني، ومن العشرة المبشرين بالجنة، يقول عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لو كان بعدي نبي لكان عمر)، ومع ذلك يقول: وددت أني نجوت منها كفافا، لا لي، ولا علي. وفي صحيح البخاري من حديث محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. وروى البخاري في صحيحه من حديث العلاء بن المسيب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب -رضي الله عنه- فقلت: طوبى لك، صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا ابن أخي، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده. يقول ابن المبارك: إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا، وإن أنفسنا لا تواتينا إلا كرها، وهذا من تواضعه، وإلا فهو العلامة الزاهد الورع، قال المروذي: سمعت أبا عبدالله الإمام أحمد بن حنبل ذكر أخلاق الورعين فقال: أسأل الله ألا يمقتنا، أين نحن من هؤلاء؟!. وقال صالح بن أحمد: كان أبي إذ دعا له رجل يقول: الأعمال بخواتيمها، وقال مرة: وددت أني نجوت من هذا الأمر كفافا، لا علي ولا لي، وقال المروذي: أدخلت إبراهيم الحصري على أبي عبدالله - وكان رجلا صالحا - فقال: إن أمي رأت لك مناما هو كذا وكذا، وذكرت الجنة، فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج إلى سفك الدماء، وقال: الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره، وقال له المروذي يوما: كيف أصبحت يا أحمد؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟!. وصدق الفرزدق عندما قال: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع ولا شك أن ما تقدم من أقوال عن السلف، فإنما مردها إلى أنهم كانوا يهضمون أنفسهم، ويتواضعون، ويحتقر أحدهم نفسه ويمقتها في ذات الله، وهذا هو حال المؤمن التقي حتى يلقى الله.

مشاركة :