تحديات المثقف السوري في محنته الراهنة

  • 5/6/2016
  • 00:00
  • 64
  • 0
  • 0
news-picture

مثلما وضعت رياح التغيير المثقفين السوريين أمام أفق جديد يحدوهم الأمل بتعزيز دورهم للنهوض بمجتمع حر معافى، فقد امتحنت حالة العنف المفرط وما تخلفه من ضحايا وخراب، عمق خيارهم الإنساني، وصدق التزامهم معاناة أهلهم، وقيم الحرية والكرامة، ووضعتهم أمام تحديات تبدو كما لو أنها أعادت مسؤوليتهم إلى المربع الأول. أولاً، لا يستطيع المثقف السوري، أياً تكن الدوافع والأسباب، التهرب من واجبه الإنساني والأخلاقي في رفض العنف وإدانته، ليس فقط بسبب مشهد مأسوي لا يحتمله عقل ولا ضمير، بل لأن العنف في جوهره احتقار للإنسان، وعدوان سافر على أبسط الحقوق، ولأنه صنو أعداء الفكر والثقافة والحوار، وقوى أصابها العمى الأيديولوجي ولا ترى غير سبيل القوة والغلبة لفرض سطوتها. صحيح أن انهيار فرصة التغيير السلمي وتفاقم الفتك والتنكيل، أفضيا إلى تحجيم الهامش الضيق أصلاً أمام المثقفين وأضعفا صوتهم ودورهم، وصحيح أن تجارب التاريخ أكدت أن طريق العنف مهما بلغ في جبروته هو طريق قاصر ومكلف ولا أفق له، لكن الصحيح أن ثمة من لا يزال يتغنى بجدوى هذا الطريق، رافضاً الحلول السياسية ومتوهماً القدرة على سحق الآخر عسكرياً، والصحيح تالياً أن ثمة دور منوط بأهل الفكر والثقافة لدحض هذه الأوهام، شاهرين حقائق كرستها تجربتنا المريرة، بأن ما حصده مجتمعنا من القمع والعنف هو المزيد من العجز واللاجدوى، والمزيد من هتك وحدتنا وتخريب حياتنا الإنسانية وعلاقتنا مع أنفسنا ومع الآخر، ما يفسر حالة الاستقطاب الثأري المؤسف التي وصلنا إليها، والتفشي المفزع للغة الحقد ولمقولات إقصائية تدعو إلى إفناء الآخر من دون رحمة، أقل ما توصف بأنها، غير مألوفة أخلاقياً، وتكشف عن توحش وهمجية غريبين على روح الشعب السوري وتاريخه. ثانياً، قالت رياح التغيير أن زمن الوصاية انتهى، وعصر الأيديولوجيات انقضى، وكان الأمل أن يساهم المثقف في تعزيز تحرر المجتمع من سطوة الالتزام المسبق بمفاهيم وشعارات وحلول جاهزة، سواء كانت قومية أم شيوعية أم دينية، متوسلاً الطابع العفوي للحراك الشعبي الذي لم يستند إلى أية مرجعية، وقبله النتائج المخفقة لتجريب الأيديولوجيات كخيار سياسي ونمط حياة، لكن احتدام الصراع بوجهه العنفي واتخاذه أشكالاً دون وطنية، إثنية ومذهبية، ثم الصعود اللافت للقوى الجهادية وجماعات الإسلام السياسي، أعادا الاستقطاب الأيديولوجي إلى الواجهة، وأجهضا التجربة الغضة للتحرر من الثوابت والتخندقات المعرفية، وتالياً فرصة إطلاق حرية الفكر والنقد في مجتمعات كسر الاستبداد شوكة إبداعاتها وخنقتها الوصاية الفكرية. ثالثاً، إن الانزلاق نحو مستوى بدائي للصراع وتصاعد حدته واستعصائه، أرخى بثقله على كاهل المثقف السوري، فاتحاً الباب أمام تحدٍ جديد عنوانه تثبيت الهوية الوطنية التي باتت تقف اليوم أمام اختبار مفصلي لسبر عناصر قوتها ومقومات استمرارها، فكيف يستطيع المبدعون والمثقفون الصمت تجاه الإنزياحات الواسعة التي حدثت في منظومة القيم والمبادئ الوطنية، وتجاه ذاك الإستجرار غير المسبوق للقوى الخارجية للتدخل بشؤوننا؟ وأنى لهم أن يبقوا مترددين وعاجزين تجاه تنامي عصبيات قبلية وطائفية تناقض أحكام العقل والأخلاق وتجاه ما تخلفه التعبئة الاستفزازية من تهتك للعقد الاجتماعي وأسس العيش المشترك؟!. رابعاً، إن تفشي لغة الاستهزاء بالربيع العربي والسخرية من مطالب الناس في الحرية والكرامة استناداً إلى النتائج المأسوية المدمرة التي وصلنا إليها، وضع على عاتق المثقف واجب تعميم القراءة الموضوعية لما حدث، بإظهار أن ما يسميه البعض «الخريف الدموي» ليس سوى ثورة مضادة قامت بها قوى تعادي شعارات الحرية والكرامة، وتستهتر بحقوق الناس والأسباب الحقيقية لحراكهم، وتالياً تبيان أن ما نجم من تأجيج للصراعات المتخلفة ودمار وضحايا وتشرد، ليس نتاج الثورة السلمية المطالبة بالتغيير الديموقراطي والمواطنة والعدالة، بل نتاج العنف والقمع وما خلفه من عنف مضاد، وجراء تجاهل الحلول السياسية ورفض تقديم تنازلات تلتقي مع مصالح البشر ومطالبهم. والحال، لم تكن صدفة أن تحمل رياح التغيير راية الديموقراطية ومناهضة الاستبداد بما هو رفض الدوافع الرئيسة لاستمرار جهلنا وفسادنا وعجزنا، فقد جرب شعبنا المنكوب كل الخيارات الأيديولوجية والسياسية وكانت النتائج مؤلمة ومخيبة للآمال، ونظرة متفحصة إلى ما وصلنا إليه تكشف أن أكبر عنوان لتخلفنا هو عندما ذهبت نخبنا السياسية إلى اعتبار الديموقراطية شعاراً غريباً عن حقوقنا ومصالحنا وثقافتنا، واختارت معاداتها ومواجهتها بأيديولوجيات شمولية، لا تؤمن بالتعددية والحوار والتشارك، بل تسوغ، على نقيض ذلك، الأحادية والوصاية والطغيان. والنتيجة أن المحنة السورية، هي محنة الحقل الثقافي أيضاً، محنة وضعت المثقفين والمبدعين أمام تحديات متنوعة لتصويب موقعهم ودورهم في مسار الخلاص، بدءاً بتأكيد التزامهم حقوق الناس وحرياتهم وعدم التهرب من واجبهم في التعبير عن مشاعر وحاجات المجتمع الذي يعيشون فيه وتبني الفرص الأنجع لتخفيف آلامه وتجاوز أزماته، مروراً بالوقوف الحازم ضد كل أشكال القهر والعنف والتنكيل، من أي مصدر جاءت، وتعرية التشرذم والتفكك وتبلور عصبيات متخلفة تحكمها نزعات إقصائية تهدد مفهوم المواطنة ووحدة المجتمع وغناه الأثني والديني، ومروراً باعتزازهم بالخيار الديموقراطي، ومنحه على رغم ما شهده من انتكاسات، الموقع المفتاحي الذي يستحقه، كخيار خلاص ونهوض لمجتمعنا المنكوب، بما في ذلك عدم التنكر، وتحت أية ذريعة، للموقف الصائب من الاستبداد بوصفه المسؤول الرئيس عما نعيشه الآن، وإنتهاءاً بالتحرر من الارتهان لرؤية أيديولوجية وثوابت عفا عنها الزمن، والمساهمة في التأسيس لتصورات نهضويه ومفاهيم تنويرية تقترن بالتاريخ الحي، للرد على الأصوات اللاعقلانية والدوغمائية التي تدعو إلى العيش ، من دون نقد أو اجتهاد، في الماضي والموروث الديني أو القومي، والتي تعتبر نفسها مالكة الحقيقة المطلقة غير القابلة للاختبار أو النقاش واعتادت التفريط بحياة الإنسان والاستهتار بحقوقه، كقيمة لا تعلوها قيمة.     * كاتب سوري

مشاركة :