لم تكن ولن تكون السيدة صفية بن زقر -رحمها الله- مجرد امرأة جاءت وذهبت بسلام، وذكرى عابرة تغيب في النسيان مع تقادم الزمان، بل ستظل علامة فارقة في الفن السعودي والعمل التطوعي النسائي وطيفا ثقافيا ألهمت المبدعين، وبصمة تاريخية تتجاوز صورة الإطار، الأبيض والأسود لتعلق في متحف الذكريات، بل ستظل كما رغبت على الدوام، لوحة زاهية تماما مثل لوحاتها التي تتدفق نهرا من الحيوية والتفاؤل والمحبة وتوثيق لتاريخ تطور المرأة السعودية. ليس كل المبدعين سواسية فهناك من يمارس إبداعه ليرضي نرجسية ذاته، وهو حق لا باطل ولا إثم فيه، وهناك من يمارس إبداعه ليقدم رسالة، وهذا البعض هم الخالدون من المبدعين، والسيدة صفية بن زقر كانت من هذا البعض. كانت مثالا للمرأة الشغوفة المثقفة الشجاعة وإن اجتمعت هذه الصفات مع رؤية ورسالة، فأنت أمام امرأة هي إنجاز وتاريخ -معا- في ذاتها. ولدت في زمن لم يكن للمرأة حق في الصوت والصورة والتعليم والرأي والتغير، لكن كما قلت في مقالة «الغذامي غير» بعض الناس خلقوا ليكونوا مختلفين عن غيرهم طبعا ثم اختيارا. ولدت في «جدة» المدينة التي كانت وستظل مصدر التنوير الأول في الجزيرة العربية، فنحن نشبه مدن ميلادنا الأولى. وفي سن السابعة انتقلت إلى القاهرة، لكن ظلت «جدة» جغرافية الحب والثقافة والتاريخ لا تفارقها مهما تغيرت الأماكن وتنوعت وركضت السنون بعيدا عن المهد الأول، من القاهرة إلى بريطانيا. عشقت الرسم وآمنت بموهبتها وناضلت من أجلها فقد منحها الله «ذاكرة بخصائص كاميرا فوتوغرافية»، وقلما في زمنها الأول من نساء شبه الجزيرة العربية من كانت تملك هذه الموهبة وتكافح من أجل فرض وجودها أمام مرأى ومسمع الجميع. فقد تنوعت في دراسة الرسم «حلمها الأول والأخير» الذي وثقت الأيام بأنه حلم حجز لها مقعدا في نادي العظماء، ونضجت تلك الموهبة من خلال التحاقها بكلية «سانت مارتن» للفنون في لندن وحصلت على شهادة في فن الرسم والجرافيك. والقيمة هاهنا في الزمن وليس في خطوات الرحلة، فالزمن الذي حدثت فيه هذه الرحلة هو زمن لم يكن للمرأة مكانا فيه سوى الظل، وهنا أتحدث عن نساء الفترة التي عاشت فيها السيدة صفية شبابها وأحلامها وطموحها. فالزمن هو مسطرة فرز الخالدين من العابرين. إن التميز العربي في مجال الرسم هو مدى قصير مقارنة بمدى التمييز العربي في مجال الشعر والرواية والقصة، وهذه الندرة تجعل «فن الرسم» تحديا صعبا للرجل وتزداد صعوبته للمرأة خاصة في زمن مثل الزمن الذي تفتقت فيه موهبة الرسم عند صفية بن زقر؛ لذا لم تكن رحلة الطموح والصعود بقيادة «ملعقة من الذهب». هذه الرحلة الزاهية بالطموح والصعوبات وفق الزمان والمكان والفكر، هي التي منحتها صفة استحقاق «الريادة بلا منافس» في مجالها في السعودية، فهي تعد من أوائل مؤسسي الحركة التشكيلية في السعودية، وكان أول معرض لها عام 1968م ثم تتابعت المعارض من المحلية إلى الإقليمية العالمية سفيرة للمرأة السعودية قبل وجود اللقب. «لم تستغل لوحاتها الفنية ماديا»؛ فظلت محتفظة بها ككتاب تاريخ أو فيلم وثائقي يعرض من خلال لوحاتها، ولذا أنشأت «دارة صفية بن زقر» في جدة عام 2000م لتصبح متحفا للوحاتها، ليستمتع ويتدبر الجميع سماء رحلة الطموح والتاريخ، ولذا أصبحت لوحاتها اليوم مصدرا من مصادر البحث العلمي تاريخيا وفنيا. لقد أسست من خلال هذه الدارة، أول جمعية تطوعية فنية ثقافية نسوية مشهورة في مدينة جدة، من خلال البرامج الموسمية والأنشطة والورش الفنية والثقافية الموجهة للموهوبين الصغار والكبار، لذا تم دعمها من خلال منظمة «اليونسكو»، وكانت نافذة ضوء تثقيفية «للمرأة الجداوية». وقد كرمت السيدة صفية بن زقر محليا ودوليا، ونالت «وسام الملك عبدالعزيز» تقديرا لرحلتها الفكرية والتنويرية، وقد احتضن المتحف البريطاني في لندن لوحات لها وخاصة تلك التي تحكي من خلالها الواقع السسيولوجي للمرأة الحجازية. ستظل موناليزا الحجاز السيدة صفية بن زقر تاريخا لن ينسى، ونموذجا نهضويا شاهد عيان على عظمة نساء هذا البلد العظيم.
مشاركة :