يشهد التاريخي العلمي والتراثي على دور المسيحيين العرب في حفظ ونهضة اللغة العربية من خلال صناعة المعاجم العربية، وهي صناعة عربية تعود إلى القرن الثاني الهجري، ومن أشهرها معجم «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي (100-175ه)، «ولسان العرب» لابن منظور، و«القاموس المحيط» للفيروزأبادي، و«تاج العروس» للزبيدي، و«تاج اللغة» و«صحاح العربية» للجوهري، و«المحكم» لابن سيده، و«العباب الزاخر واللباب الفاخر» للصغاني»... أو غيرها. وساهم المسيحيون العرب في التأليف المعجمي منذ القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، من ابرزهم أحمد فارس الشدياق، بطرس البستاني، أنستاس الكرملي وغيرهم.. وقد وصف اللغوي الكبير د. عبد الله العلايلي هذه الكوكبة من اللغويين المسيحيين العرب بالقول «إنهم العُمُد الجدد للغة العربية، بهم تزهو ويزهون بها. وقد خدموها بكل ما أوتوا من طاقة بحث وتفتيش في جمع المادة وترتيبها، وشرح المعاني وتفنيدها، وفي المحصّلة تقديم روافعها تقديماً وافياً ومتجدّداً». كما وصف العلايلي، الثلاثي: (الشدياق، البستاني، الكرملي (بأنهم ممثلو الفكر النهضوي العربي الحديث والأصيل، بسبب ثقافتهم التراثية الموسوعية ومعرفتهم باللغات الأجنبية المركزية كالفرنسية والإنجليزية والإيطالية. فالكاهن المسيحي أنستاس الكرملي، يوصف بجدار العربية الصلب، وتنحدر أصوله لأب لبناني، واسمه الحقيقي بطرس جبرائيل عواد وأم عراقية تدعى مريم، والذي ولد في بغداد عام1866، وتوفي فيها عام 1947، وقد انشغل طوال رحلة حياته بقضيتين رئيسيتين هما: خدمة الكنيسة والرعية من جهة، واللغة العربية من جهة أخرى، فألف معجمه «المساعد» وأنشأ مجلة «لغة العرب» لتكون منبراً للدفاع عن لغة الضاد، وتقديمها على ما سواها في أولويات التدريس في المدارس والمعاهد والجامعات، وحتى على مستوى الكنيسة وإقامة الصلوات وسائر الشعائر الدينية بواسطتها. كما أصدر العديد من الكتب التي تُعنى باللغة العربية، والتراث العربي، في طليعتها: «أغلاط اللغويين الأقدمين» و«نشوء اللغة العربية ونموها واكتمالها» و«النقود العربية وعلم النميات».. وله مخطوطات عديدة غير مطبوعة، كانت في طريقها للطبع لولا الحروب والأزمات الدموية الحادة التي حلّت ب العراق منذ أكثر من عقدين من الزمن. اليازجيان الأب والإبن ومن المشتغلين المسيحيين العرب الكبار باللغة والتجديد اللغوي، لا بدّ من أن نتحدث عن كل من القطبين اللغويين الكبيرين: وكان للقطبين المسيحيين ناصيف اليازجي (1871-1800) وابنه ابراهيم. (1906-1847) دورا مشهودا في حماية اللغة العربية وتدريسها في البلاد العربية بدلا من التركية، ولذلك قاما، بترجمة الإنجيل والعهد القديم إلى لغة الضاد، معتبرا أن للكنيسة الدور الأكبر والأكثر تجذراً في معركة نشر اللغة العربية والتراث العربي بين رعاياها المسيحيين. الريادة ولطباعة اهتم المسيحيون العرب بجَلْب مطابِع بالحروف العربية ويُرجِّح مؤرخو الطباعة أن أول نصٍّ طُبِع بالعربية كان (كتاب المزامير) عام ١٦١٠م في دير القدِّيس أنطون قزحيا، وكان من الرُّهبان المَوارنة، وقد طُبِع باللُّغَتين السُّريانية والعربية. وكانت أول مَطبعة عربية صِرفة في الشرق فقد أنشِئت بحَلَب سنة ١٦٩٨م على يد البَطريَرك أثناسيوس الرابع. وكانت أول مطبعةٍ عربية في لِبنان مطبعة مار يوحنَّا الصايغ من الرُّوم المَلَكيِّين، وأنشِئت عام ١٧٣٢م في بَلدة الشُّوير ثُمَّ مطبعة القدِّيس جاورجيوس، وهو من الرُّوم الأرثوذكس وأنشأها في بيروت عام ١٧٥٣م. وفي عام ١٨٧٤م ظهَرَت في بيروت المَطبعة الأمريكية ثُمَّ المَطبعة الكاثوليكيَّة. وبعد ذلك أنشِئت مَطبعة المَعارف سنة ١٨٦٧م للمُعلِّم بُطرس البُستاني وخليل سركيس. وأنشأ هذا الأخير بعد ذلك المَطبعة الأدبيَّة عام ١٨٧٤م. وفي مصر بدأت الطِّباعة مع الحملة الفرنسية١٧٩٨-1801م وأنشأ محمد على مَطبعة بولاق التي سُميِّت المَطبعة الأميرية. لكن أول مطبعةٍ أهليَّة في مصر كانت المطبعة القِبطيَّة التي أنشأها الأنبا كيرلُّس الرابع سنة ١٨٦٠م. التطور الشعري يمثل المسيحيون العرب أحد اركان التطور الفكري واللغوي والادبي خلال القرنين التاسِع عشر والعشرين وبعضهم كان من رُوَّاد حركة التطوُّر الشِّعري التي ظهرَت بداية ق19 مثل نيقولا الترك ١٧٦٣-1828م(وبُطرس كرامة) 1774-1851 كرامة وبطرس وهما من أبرَز من سعى لإحياء الشِّعر العربي وبعث تراثه مجددا. وابدعت قرائهم الشعرية بأعذب القصائد على أيدي كوكبة مبدعة منهم لا تزال اشعارهم تعيش بيننا، مثل خليل مُطران وبِشارة الخُوري الملقَّب بالأخطل الصَّغير، وكانوا من أعظم شعراء العرب في القرن العِشرين من لبنان تفجَّرت مَوهبة الكثير منهم في المَهجَر تعبيرا عن حَنينُهم لوطنهم العربي بعد أن هاجروا منه وفي مقدمتهم إيليَّا أبو ماضي ورشيد سليم الخُوري الملقب بالشاعر القُرَوي. بجانب ميخائيل نعيمة، صاحِب كتاب (النَّبِي) الذي يُعدُّ تحفةً أدبيَّة. صناعة وتطوير الصحافة أما دَورُهم في إنشاء وتطوير فنِّ الصحافة فهو مَعروف للجميع ساهم المسيحيون العرب مع اخوانهم المسلمين في تطوير اللغة العربية وتَطويعها لمقتضيات الأخبار والمقالات التي نشرُوها في صُحُفهم. ومن أقدَم دُور الصُّحف التي لازالت تلعَب دَورًا مُتميِّزًا في الصَّحافة العربية الأهرام ودار الهلا». وقد أنشأ الأهرام بالإسكندرية في سنة ١٨٧٦م الأَخَوان سليم وبِشارة تَقْلا، وهُما مَسيحيَّان، ثم نقلاها إلى القاهرة عام ١٨٩٢م. أما مجلَّة الهلال فقد أنشأها عام ١٨٩٢ جُرجي زِيدان، وهو مَسيحي لبناني نزَح مثل الأخَوَين تَقْلا من لبنان إلى مصر بسبب الاضطِهاد العُثماني. وفي الإسكندرية صدَرَت صحيفة «المحروسة» عام ١٨٨٠م على يد أديب إسحق وسليم النقَّاش. أما المُقطَّم التي انطلَقَت من القاهرة سنة ١٨٨٩م فقد أسَّسَها ثلاثة مَسيحيِّين هم يعقوب صرُّوف وفارِس نِمر وشاهين مكاريوس. وفي القاهرة أيضًا أنشأ نقولا شحادة «الرائد المصري» عام ١٨٩٦م. وفي عام ١٩١٠م اشترك مُسلِم ومَسيحي هما الشيخ أمين تقي الدين وأنطون الجميل في إصدار المجلة السياسية الادبية (الزهور) وفي لِبنان أنشأ المُعلِّم بُطرس البُستاني مجلة (الجنان) عام ١٨٧٠م من أوائل المجلَّات السياسية الأدبيَّة التاريخية في الوطن العربي. وأنشأ ابنه سليم البُستاني (الجنينة) التي كانت أول جريدة مُنتظِمة شِبه يوميَّة في لبنان عام ١٨٧١م. وفي دمشق، أنشأ سليم حنَّا عنجوري سنة ١٨٨٧م مجلَّة (مرآة الأخلاق) وأنشأ جورج متَّى وجورج سمَّان سنة ١٩٠٠م مجلَّة (الشمس). وأنشأ الاباء الكرمليِّون مجلة زهيرة وفي بغداد عام ١٩٠٥م. أنشئت مجلة (إكليل الورود) في الموصل للآباء الدُّومِنيكان عام ١٩٠٢م. واصدَر اللبنانيُّون في المَهْجَر عدَّة صُحف في أواخر القرن التاسِع عشر وبِداية العِشرين. دورهم في المسرح لعب المسيحيون العرب دورا رئيسيا في تأسيس المسرح في دولنا العربية، خاصة في مصر ولبنان، من خلال اقتباس مارون النقاش (1817-1855) المسرحية «البخيل» لموليير عام 1847، معتمدا طريق التقليد والمحاكاة، ثم اتجه إلى تأليف النصوص وإخراجها، مثل مسرحياته «ابو الحسن المغفل» و«هارون الرشيد 1849 و«الحسود السليط» 1873 وكان المسيحيون العرب رودا في فن التمثيل السينمائي والمسرحي، منهم الممثل اللبناني الكبير جورج أبيض (1880-1959) والذي كان غادر لبنان الى مصر، وهو في سن الـ18، وقدّم هناك أول فيلم غنائي مصري، واسمه «انشودة الفؤاد» 1932 ثم درس في «معهد الفنون المسرحية» في القاهرة، وساعده الخديوي اسماعيل في تطوير تجربته وتعميقها عن طريق ابتعاثه بمنحة حكومية ليدرس أصول فن الخشبة في باريس. وكان له ما أراد، وعاد من فرنسا إلى القاهرة بزادٍ علميّ وعمليّ مكين في عام 1910 عاد وبصحبته فرقة مسرحية فرنسية تحمل اسمه الشخصي؛ ولعب هو وفرقته هذه على المسارح المصرية في القاهرة والإسكندرية أكثر من 133 مسرحية مقتبسة ومؤلفة، وعلى مدى عقدين متواصلين من الزمن ومن أهم مسرحياته: أوديب الملك، عطيل، تاجر البندقية، ترويض النمرة، شارل السادس، أبطال المنصورة، عدو الشعب، الحاكم بأمر الله، البدوية، صلاح الدين وملكة أورشليم.. وغيرها.. وغيرها. والفنان المسيحي المصري–العراقي الكبير نجيب الريحاني(1889-1949) رائد التمثيل علي خشبة المسرح. وبرأيي ان المسيحيين العرب كانوا ولا يزالون ركيزة من ركائز ثقافتنا وتراثنا ولغتنا وأدبنا وفكرنا العربي، واسهموا في تطوره ونهضته بالكثير من العطاء الذي يسجله التاريخ العلمي العربي بأحرف من نور. الرأي
مشاركة :