أصدرت موسكو وواشنطن، في فبراير الماضي، بياناً مشتركاً أعلنتا فيه بنود اتفاق وقف الأعمال العدائية في سوريا، ضمن هدنة اتفقت عليها القوى الرئيسية في العالم واللاعبون الإقليميون وغالبية الأطراف المشاركة في الحرب الأهلية السورية. وكشف الاتفاق عن مستوى مدهش من الأمور المشتركة الجامعة بين البلدين، في ظل الاتهامات العنيفة المتبادلة التي طبعت العلاقات الأميركية الروسية في السنوات القليلة الماضية. تعاون غير متوقع واستهل البيان المشترك بالقول: تسعى الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية للتوصل إلى تسوية سلمية للأزمة السورية، مع الاحترام الكامل للدور الأساسي الذي تقوم به الأمم المتحدة. كما أبدى البلدان وفق البيان تصميماً تاماً لتأمين أقصى ما يمكن من الدعم لوضع حد للصراع الروسي. وجاء مثيراً للدهشة بشكل أكبر صمود الهدنة النسبي، على الرغم من توقع عدد من الخبراء انهيارها السريع. وحين أعلنت روسيا، في مارس الماضي، عن البدء في سحب قواتها من سوريا، أرادت التعبير عن اعتقادها بإمكانية صمود الهدنة بمعزل عن الحضور العسكري الروسي. وتعتبر الهدنة شاهداً آخر على تعاون الأميركيين والروس على نحو مثمر غير متوقع، وقد سبق أن توافقتا عام 2013 على خطة للتخلص من الأسلحة الكيماوية بموافقة الرئيس السوري بشار الأسد. وتشير لحظات التعاون تلك إلى أنه على الرغم من تبدّل النظام العالمي بشكل يفوق الإدراك على مدى ربع قرن من الزمن، وابتعاده عن صفة التنافس بين قوتين عظميين، فإنه لدى نشوب الأزمات العالمية الحادة، غالباً ما تكون روسيا وأميركا اللاعبين الوحيدين القادرين على حلها، في الوقت الذي تبدي القوى الناشئة والمؤسسات الدولية والمنظمات الإقليمية عجزاً أو عدم رغبة بالقيام بأي خطوة. وتكافح كل من أميركا وروسيا اليوم لتحديد معالم دور كل منهما المناسب على الساحة العالمية. إلا أن الأمر المؤكد الوحيد الذي تشعر به كل دولة إزاء الأخرى هو أنها تجاوزت حدودها. سقوط الاتحاد السوفييتي لا ينبثق التوتر الأميركي الروسي من أحداث سوريا وأوكرانيا وحسب، بل يشكل حلقة في سلسلة التباين المستمر حول معنى انهيار الاتحاد السوفييتي بالنسبة للنظام العالمي. فبالنسبة لأميركا وبقية الغرب، يرادف إرث سقوط الاتحاد السوفييتي فوز الولايات المتحدة في الحرب الباردة، واتخاذها الموقع الشرعي كقوة عظمى وحيدة في العالم، في الوقت الذي أخفقت فيه روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي في الاندماج في النظام الليبرالي الدولي كقوة إقليمية. ولدى الروس، طبعاً، نظرةً مغايرة تماماً للوضع، ويعتبرون أن موقع روسيا الخاضع ليس إلا محصلة غير شرعية لحملةٍ أميركية اللامتناهية لإبقاء روسيا في المركز الثاني، ومنعها من استعادة موقعها المناسب. ما من شك بأن موسكو حققت في السنوات القليلة الماضية بعض النجاح في مسعاها لاستعادة موقعها على الخارطة الدولية، إلا أنه يصعب التأكد من استمرار تلك المكاسب، سيما أنه فيما يتعلق بدورها في العالم، فإن روسيا تقع في براثن أزمة الهوية، فهي لم تفلح في الاندماج كلياً في النظام الليبرالي، ولا تمكنت من التأسيس لبديل قابل للحياة. لقد أبطل تفكك الاتحاد السوفييتي صيغة النظام العالمي الجديد كما تخيله الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف، وبقية القادة السوفييت الإصلاحيين، ولم يعد مرادفاً لتسوية بين الأنداد، بل لانتصار مبادئ الغرب ونفوذه. ومن الواضح أن الكرملين قد أدرك أنه من أجل الدفاع عن مصالحه الحدودية، فلا بد له من اللعب سياسياً على مستوى العالم. وبناءً عليه، اتخذت روسيا القرار، بعد فرض سيطرتها في أوكرانيا، بأن تكون سوريا موقع ممارسة قبضتها الحديدية التالية. ومن هنا فإن الهدف من التدخل السوري لم يكن تعزيز موقع الأسد، بل إرغام أميركا على التعامل مع روسيا من موقع الند. ويرى المراقبون أنه بغياب أساس اقتصادي أكثر رسوخاً، فإن الثغرة بين طموحات روسيا وقدراتها ستزداد عمقاً، مما قد يحفز على التركيز بشكل شرس على الاحتياجات المحلية، ويحفز في الوقت عينه على الإقدام على رهانات خطيرة في الخارج.
مشاركة :