عبدالله فيلبي.. الرحّالة الأعجوبة

  • 10/18/2024
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تكلمت عن المستشرق جورج رنس في عدد مضى، وكشفت عن خدماته نحو الجزيرة العربية طيلة عمله بشركة الزيت العربية -أرامكو-، وفي هذه السطور نكتب عن مستشرق ومستعرب كان ملأ السمع والبصر في المنطقة العربية عموماً، والمملكة خصوصاً، الذي مكث فيها عدة عقود من الزمن باحثاً ورحالة ومؤرخاً ومستكشفاً ومنقباً عن آثار الجزيرة العربية، إنه الشخصية الأعجوبة عبدالله فيلبي -هاري سانت جون فيلبي قبل إسلامه-، والتي قدمت للمكتبة العربية والعالمية أسفاراً من العلم والمعرفة بجهد فردي متميز واستثنائي، وهذا راجع إلى عبقريته، ويحق لنا أن نقول إنه علامة في الجزيرة العربية، حيث طاف معظم الجزيرة العربية ولو لم يكتب إلاّ كتابه عن الربع الخالي لكفاه مفخرة ومكانة عند العلماء والمستكشفين، هذا فضلاً إلى قربه من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الذي ارتبط معه بأقوى العلاقات وأوثق الصداقات، حيث سهّل الملك المؤسس الكثير من العقبات في رحلاته، وكتب عن الملك المؤسس في بعض كتبه، وأصبح بمثابة المستشار، وهو الذي دعمه في رحلته إلى الربع الخالي وشجعه على المضي فيها، كان الملك المؤسس يقدره ويحترمه ويعرف مكانته لذلك كان عنده محل الإكرام والحفاوة طيلة هذه السنوات الطوال، حتى أنه كان يحضر جلسات الملك عبدالعزيز، ويتحدث معه ونال ثقته. وعندما أسلم عبدالله فيلبي أوائل الخمسينات الهجري كان مفتاحاً له للتجوال بحرية في المملكة وفي الأراضي المقدسة، وهو لم يدخل عالم الربع الخالي إلاّ بعد إسلامه -رحمه الله-، وحج وكتب عن حجه كتاباً وأطلق عليه فيما بعد الحاج عبدالله فيلبي، ويذكر بعض الكتاب أن شخصية فيلبي معقدة بالغة التعقيد صعبة المراس قوي الشكيمة شديد الثقة بنفسه وبقدراته، صلب العود وهو حاد الذكاء يجيد التعامل مع العرب؛ لأنه تعلم اللغة العربية بل إنه عالم باللهجات المحلية في المملكة والعادات والتقاليد. أعود وأكرر أنه علاّمة الجزيرة العربية، كُتبت عنه دراسات ومقالات بالإنجليزية والعربية، ومن أوائل الكتب التي كتبت عنه بعد وفاته كتاب بعنوان (عبدالله فيلبي قطعة من تاريخ العرب الحديث) للرائد خيري حماد -رحمه الله- الذي أصدره 1961م، والكتاب الآخر الذي ترجمته مكتبة الملك عبدالعزيز لمؤلفته اليزابيث. بريطانيا والهند وُلد عبدالله فيلبي بسيلان وكان والده صاحب مزرعة شاي فيها، وتاريخ ميلاده 1885م، غادرت أسرته إلى بريطانيا، ثم درس هناك المراحل الأولى في التعليم، ثم التحق بكلية ترينيتي في جامعة كمبردج، وبعدها تخرج، وقد اجتاز دورات في اللغات الشرقية والقانون الهندي والتاريخ، وسافر إلى ألمانيا وفرنسا وتعلم اللغة الفرنسية والألمانية بوقت قياسي، ثم رحل إلى الهند واستقر فيما بعد في جيروم، وكاد أن يموت في حادث اصطدام قطار، خالط المسلمين هناك وتعلم القرآن الكريم مع أنه لا يزال غير مسلم، تعلمه على أيد أحد المعلمين الهنود هناك، وكان هذا المعلم يعمل مع شخصيتنا في الدائرة الحكومية، وتعلم الأردية والفارسية، وفي أثناء نشوب الحرب العالمية الأولى رحل إلى العراق 1915م، ومنذ أن حل بمنطقة الشرق الأوسط أَسَرته هذه المنطقة، خاصةً عندما قام برحلة طويلة قطع فيها 1300كم حتى وصل إلى الرياض 1332هـ في ذي الحجة، وكانت أول مقابلة له مع الملك المؤسس، وقد تعلق فيلبي بالملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وكوّن انطباعاً ايجابياً وكبيراً وعظيماً عنه، لقد منح الله فيلبي مواهب منها الدهاء والعمق في تحليل الشخصيات وخصوصاً القيادية، وبعد أن ضم الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الحجاز إلى حكمه، أصبح عبدالله فيلبي شبه ملازم للملك، وصار أكثر مرافقة له، وعندما أسلم أصبح من القريبين أكثر من المؤسس. صيد وقنص وتحدث المؤرخ المترجم خيري حماد -رحمه الله- عن عبدالله فيلبي -رحمه الله- في كتابه قائلاً: إنه كان قريباً من الملك المؤسس، رافقه في رحلته إلى الرياض عبر صحارى الجزيرة بالسيارات، وكان فيلبي قد زار الرياض من قبل وقال بعد زيارته: هذه هي الثانية، لم تتغير من قبل، ويذكر عن ذكرياته في العاصمة الرياض: كنا نقوم أحياناً بجولات نخرج فيها عن حدود المدينة الغربية، فنتوغل بعيداً في الصحراء طلباً للصيد والقنص، وكان الملك المؤسس شيد قصراً له في البديعة في وادي البطين -الباطن وادي حنيفة-، حيث نخرج له كل مساء بالسيارات لنجلس في الصحراء ونتحدث، ثم نتناول العشاء قبل أن نعود إلى المدينة، ويذكر شخصيتنا خبراً ساراً أفرحه كثيراً وكاد يطير من الفرح والابتهاج وهو أن الملك المؤسس أخبره قائلاً: لا ريب في أنك تحب أن تزور الربع الخالي، حسناً ستقوم بهذه الزيارة، وقد كتبت لعبدالله بن جلوي ليعد لك جماعة ترافقك في رحلتك هذه، وانتظر فيلبي الأذن من الملك المؤسس؛ لأن هذا كان حلماً يبتغى تحقيقه على أرض الواقع منذ سنوات كان يفكر فيه لما كان بالأردن، ومن حبه وشغفه بهذا حدّث زميله توماس ذاك -الرحالة الإنجليزي- فبادر وسبق فيلبي إلى هذه الرحلة، مع أن شخصيتنا هو الذي شجع توماس على اجتياز الربع الخالي عندما عُيّن الأخير في مسقط، وأنشد شخصيتنا هذا البيت متمثلاً على حالته مع توماس: أعلمه الرماية كل يوم فلما استد ساعده رماني وتحقق الحلم وخاض عبدالله فيلبي -رحمه الله- هذه التجربة الكبرى، وهي اجتياز الربع الخالي، وكانت له طريقة فريدة في الاستكشاف، إذ إنه يدرس كل ما يراه ويشاهده سواء في رحلته هذه للربع الخالي أو في رحلاته المتعددة الكثيرة في الجزيرة العربية، فكان يدرس الأحوال المناخية والطقس والأجواء ككل، وله عين فاحصة للطيور والحشرات والحيوانات، يدقق في النباتات وكل مظاهر البيئة، هذا في مجال النبات والحيوان والجماد، أمّا البشر فله بهم عناية خاصة، فهو كأنه نسابة من نسابة العرب، يسأل عن أصول هذه القبائل وأصولها وعاداتهم ولهجاتهم، كما أنه يدرس تاريخ هذه المواقع الجغرافية، لقد كان فلبي أول من رسم خارطة الربع الخالي، وأول من اكتشف قرية الوبر الخرافية في الربع الخالي، وأول من اكتشف النجود العربية الواقعة إلى الجنوب من الحجاز، وثاني أوروبي يجتاز الجزيرة العربية من الخليج إلى البحر الأحمر في رحلته الأولى، والذي سبقه إلى هذا الاجتياز الضابط البريطاني الكابتن سادلير عام 1819م. نمط خاص ولقد أثرى عبدالله فيلبي -رحمه الله- المكتبة العالمية عموماً بهذه البحوث والدراسات القيمة الدالة على العمق البحثي والمعرفي المعلوماتي والميداني، لقد تحمل أنواعاً من الألم والتعب والمشاق وقسوة العيش في سبيل البحث والاستكشاف، واعتقد هذا جانب من جوانب حياة شخصيتنا لا يشكك فيه أحد، يحدثنا العالم المحقق والمؤرخ حمد الجاسر -رحمه الله- في كتابه (رحالة غربيون) وهو يعرفه قائلاً: «من المعروف أن فيلبي أخذ نفسه على حالة من التقشف وخشونة العيش، حينما استقر في بلادنا؛ لأنه مارس ذلك أثناء رحلاته الطويلة، ما يضطره إلى أن يتخذ نمطًا خاصًا في حياته، ليقوم برحلاته في صحارى هذه البلاد، ذات الأجواء المتقلبة صيفا وشتاءً من البرد القارس، إلى القيظ الملتهب». خدوش وكدمات ثم هو في الوقت نفسه بحاجة إلى أن يمارس من الأعمال ما يستلزم تقوية جسمه، ليتمكن من تسلق الجبال الشامخة، وليستطيع المشي مسافات طويلة، أو قطع بعض المسافات الأخرى على ظهور حيوانات لم يعتد ركوبها، وليقاسي من أنواع التعب ما يحدث له كثيرًا من الآلام في جسمه، مما عبر عنه في مواضع من كتبه، ويدل على قوة عزيمته وتصميمه واستهانته بما يتعرض له من المتاعب أثناء رحلاته في تلك المناطق المتباعدة، التي لم تعبد بعد طرقها. يقول فيلبي في رحلة قطعها هو ومن معه على ظهور الحمير: «كان التسلق بين الصخور المفككة المهلهلة للمنحدرات الشاهقة، في غاية الصعوبة، مما أثر في يدي بكثير من الخدوش والكدمات، ومن جراء السير بين الصخور -الجرانيتية- الحادة، الذي أثر على باطن قدمي بشكل كبير». ويضيف في موضع آخر: «إن الزحف والتسلق الشاق المنهمك بين الصخور الذي أحدث خدوشاً في وجهي وأنفي، وتشققاً في أصابعي، وظهور يدي، كل ذلك سبب لي مشكلة خطيرة، فقد أدركت أن كل ذلك من أسباب الإهمال والغفلة، إذ حدث لي بعض الأورام المنتشرة في جسدي، مما أحدث لي شل طاقاتي، وقدرتي على العمل، ولم يكن لدي أية إسعافات طبية من علاج، سوى بعض الضمادات، إلاّ أن ذلك لم يكن ليخفف مما واجهته من مشاق وصعوبات، هي أمثلة مما كان يقاسيه أثناء رحلاته المقصود منها الإشارة إلى ما أخذ به نفسه من التكيف بصفة القوة، للحفاظ على صحته، ليقوم بمواصلة أعماله». مؤلفات كثيرة وأثرى عبدالله فيلبي -رحمه الله- المكتبات بمؤلفاته الكثيرة، وبجهد أكثر من ثلاثين عام، دوّن وسجّل واستقصى وسأل بدون ملل ولا كلل، سافر مع تعرضه للأخطار والأهوال، وكم من مرة كاد أن يسقط ويتدحرج من الجبال، وكم من مرات أصابته جروح من جراء تسلق هذه الشواهق، كل هذا في سبيل اكتشاف نقوش أو رسوم في تلك الرواسي، لقد كان هذا مثالاً واقعياً للجلد والصبر والمصابرة وقوة النفس وعلو الهمة، فكل باحث عربي أو أجنبي في الجزيرة العربية يستفيد من مؤلفاته، فالباحثون في الجزيرة العربية وجغرافيتها وما يتعلق بها استند على كتب شخصيتنا، فهو مصدر ومناهل يستقى منها العلم، والمنصفون من العلماء أنصفوا شخصيتنا في هذا الجانب وعلى رأسهم العالم المحقق حمد الجاسر الذي يرجع إليه في معرفة الجزيرة العربية، حيث كتب عنها معجماً وخبر مواضعها، وقد أثبت شهادته آنفاً في كتابه (رحالة غربيون). ومن مؤلفات فيلبي كتاب (الربع الخالي)، وكتاب (بنات سبأ) وهي رحلة قام به إلى اليمن، وكتاب (أربعون عاماً في الثغر أو الصحراء) طبع في لندن عام 1957م، وكتاب (المملكة العربية السعودية) طبع عام 1955م وكتاب (قلب جزيرة العرب) وهو من أوائل كتبه طبع عام 1932م وكتاب (نقوش نجران) طبع في لندن عام 1944م. وجل كتب فيلبي بالإنجليزية مع أنه يجيد الكتابة بالعربية ويتحدث بها، ولعله كان يكتب لمن لا يحسن العربية من الباحثين من أوروبا وأمريكا، وله مؤلف بعنوان (ثلاثة نقوش جديدة من حضرموت) طبع في لندن عام 1945م، وكتاب (بنات سبأ) ترجم أخيراً إلى العربية من إحدى دور النشر المحلية، وكذلك كتابه (الربع الخالي) ترجم إلى العربية، وأصدر كتاباً بعنوان (حاج في بلاد العرب) وترجم إلى العربية، وكتب سيرته بعنوان (أيام عربية) طبع عام 1948م. جغرافيا وتاريخ وذكر العالم المحقق حمد الجاسر في كتابه (رحالة غربيون) أن عبدالله فيلبي كتب الكثير من المقالات ذات الصلة بالجزيرة العربية سواء كانت جغرافية أو تاريخية أو الآثار فيها، ونشر هذه المقالات في مجلات أجنبية، مضيفاً الجاسر أن الباحثين من أوروبا استفادوا من مؤلفات فيلبي، بل إن بعضهم انتحل الكثير من آرائه وادعاها لنفسه، كما أشار إلى هذا صاحب موسوعة المستشرقين وهو العلامة المصري د. عبدالرحمن بدوي -رحمه الله-، وبدوي هذا يُعد مرجعاً ومصدراً لعلوم المستشرقين والاستشراق. وعبدالله فيلبي -رحمه الله- يستحق الكثير من الدراسات الأكاديمية والبحثية المحكمة، ولعل مراكز البحوث عندنا تفرد له ندوات وكتب، أو تتولى نخبة لنشر مؤلفاته مرة أخرى التي تتعلق بالجزيرة العربية. في الختام توفي عبدالله فيلبي عام 1960م -1380هـ- في بيروت، ودفن في مقبرة الشابورة السنية، وحدثني يعقوب الرشيد الدغيثر أنه حضر جنازته وتشييعه في بيروت، وكان يعقوب قد زاره في الرياض في منزله بحي شلقا مع ولده كيم فيلبي، وجالس فيلبي في بيروت عدة مرات. عبدالله فيلبي -رحمه الله- درس المواقع الجغرافية وهو أول من رسم خارطة الربع الخالي فيلبي كان مقرباً من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- تحمل فيلبي الألم والتعب والمشاق في سبيل البحث والاستكشاف إعداد- صلاح الزامل

مشاركة :