لا يوجد تشابه من أي نوع بين القول الآن إن القضاء على تنظيم «داعش» يمر عبر استبدال نظام الأسد الاستبدادي الدموي بحكم ديموقراطي تعددي، وما قيل ذات يوم عن أن تحرير فلسطين يمر عبر عاصمة عربية أو أخرى. فالعلاقة بين تكريس نفوذ «داعش» واستمرار نظام الأسد واضحة في ذاتها. وإذا لم يكن هناك دليل مادي بالمعنى القانوني الجنائي على دور أجهزة نظام الأسد في تيسير تمدد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» إلى سورية، وتحوله إلى «داعش» وسيطرته على مساحات كبيرة فيها وتوسيع وجوده في العراق، فكثيرة هي الأدلة السياسية. لكن الأهم من هذا الدور هو أثر سياسات نظام الأسد وحلفائه في توسيع دوائر الإقبال على «داعش». فهذا النظام يشبه «المغناطيس» الجاذب لمن يلتحقون بتنظيم «داعش» غضباً أو إحباطاً أو بأساً أو رغبةً في الانتقام. وهذا فضلاً عن مصلحة نظام الأسد وحلفائه في بقاء «داعش» ليتسنى لهم مواصلة استخدامه «فزاَّعة» للمجتمع الدولي وبعض بلاد المنطقة، إذ يبدو إرهاب الدولة الذي يمارسه هذا النظام أقل سوءاً، حين يُقارن بالتهديد الذي يُمثَله أكثر التنظيمات الإرهابية قسوة وتوحشاً. غير أن العلاقة بين نظام الأسد و «داعش» تتعدى هذا كله، وتعود إلى الأصول والمرجعيات وليس إلى المصالح وحدها. فقد اعتمد «داعش» في صعوده وتوسعه على مشروع خلاصي عقيدي يبدو للبسطاء براَّقاً، مثلما كان المشروع البعثي الذي أُقيمت على أساسه سلطات متوالية في سورية، كما في العراق، وصولاً إلى نظام الأسد الأب ثم الإبن. وإذ يبدو المشروعان للوهلة الأولى متناقضين، وهما كذلك فكرياً، إلا أنهما وجهان للعملة نفسها من حيث منهجاهما. فما أشده التقارب بين هذين المنهجين، خصوصاً من حيث توسل القوة إما عبر التغلغل في الجيش الرسمي وتحويله قوةً انقلابية للاستيلاء على السلطة، وإما عن طريق إنشاء ميليشيا مسلحة واستخدامها في إقامة سلطة والعمل على تثبيت أركانها ودعم سيطرتها. وفي الحالين يرتبط الاستيلاء على السلطة أو تأسيسها بالقضاء على كل المختلفين وقتلهم، شنقاً أو رمياً بالرصاص أو ذبحاً بالسيف، وإرهاب جموع الناس عبر استخدام أكثر أساليب القهر توحشاً. ولا تختلف ممارسات «داعش» في السنوات الأربع الماضية عما فعله انقلابيو «البعث» ومن حكموا باسمه إلا في ما يتباين به ذلك التنظيم عن جماعات إرهابية أخرى، وهو الإفصاح الفوري عن جرائمه الأكثر وحشية وتصويرها وبثها والتباهي بها، من أجل بث الرعب في قلوب من يقاومونه، وفق ما يُعرف بسياسة «إدارة التوحش». ومثلما اعتمد «البعث» على شعارات برَّاقة بمقدار ما هي جوفاء مثل «أمة واحدة ذات رسالة خالدة»، يستند «داعش» إلى مقولات لا تقل لمعاناً مثل «الدولة الإسلامية قائمة وتتمدد». وكم كانت شديدة الدلالة «اللقطة» التي تضمنها تقرير بثته وكالة الأنباء الفرنسية عقب استعادة النظام السوري مدينة تدمر من «داعش» الشهر الماضي، ونشرت «الحياة» أجزاء منه منسوبة إلى مصدرها. فقد لاحظ كاتب التقرير أن هذين الشعارين مكتوبان على أحد الجدران فوق بعضهما بعضا («الحياة»، 10 نيسان- أبريل الماضي). وفي الحالين، كما في مثلهما، يؤدي هذا النوع من الشعارات وظيفة تعبوية تتيح جذب قطاعات من الشباب الأكثر إحباطاً من أوضاع الأمة (العربية عند البعث والإسلامية لدى داعش)، والأشد إيماناً بالافتراض السطحي القائل إن أزمة هذه الأمة أو تلك تكمن في تفرقها وإن نهوضها يستدعي توحيدها، وكذلك الأوفر حماسةً للعمل من أجل هدف يبدو «عظينا» أو لخوض مغامرة كبيرة. ويجمع التنظيم والحزب أيضاً أن كلاً منهما يهيمن كلياً على السلطة التي يقيمها أو يغتصبها، ثم يصبح واجهة لمجموعة من القادة وشبكات المصالح المرتبطة بهم. وسواء اتسمت هذه الأوليغاركية بالتماسك الكامل أو الجزئي، أو دب الصراع بين أركانها وانقلب بعضهم على بعض، فهي تُمعِن في تمزيق نسيج المجتمع وتخريب روحه بفعل الخوف الذي تنشره، وتتبع سياسات تتراوح بين التهميش والإقصاء، والتطهير، على خلفية عرقية ومذهبية في آن. وهما اللذان رفعا وحدة الأمة (الإسلامية أو العربية) شعاراً وهدفاً وغاية. وهما يواصلان، كل من جانبه في تكامل ضمني لممارساتهما، تمزيق أوصال سورية التي صارت في حاجة إلى معجزة لإعادتها إلى ما كانت عليه. كما لم تكن مصادفةً أن تعتمد التنظيمات الإرهابية التي نشطت في العراق عقب الاحتلال الأميركي عام 2003، وصار «داعش» امتداداً لها، على أعضاء في حزب «البعث» وضباط وجنود في جيش صدام حسين المهزوم. توالى انضمام أعداد غير معروفة من هؤلاء إلى تنظيم «القاعدة في بلاد ما بين الرافدين» بعد شهور قليلة على تأسيسه تحت شعار مقاومة الاحتلال. وليس هذا الشعار إلا امتداداً لخطاب مواجهة الاستعمار والصهيونية الذي استُخدم على مدى عقود لقهر شعوب عربية. ونال الشعبان السوري والعراقي النصيب الأوفر من هذا القهر تحت حكم السلطات التي انبثقت من حزب «البعث». ولا يختلف الأمر الآن، إذ يدفع عراقيون لا ناقة لهم ولا جمل، الثمن الأكبر للصراع الذي يخوضه «داعش» في العراق ضد ما يصفها بأنها «سلطة مذهبية عميلة». وقل مثل ذلك عن استهداف «داعش» في سورية المعارضة المعتدلة في المقام الأول، كما لو أنه يكمل مذابح النظام ذي الخلفية البعثية وحلفائه ضدها. ولا يثير دهشة، والحال هذا، أن يحظى بعض ضباط جيش صدام بموقع متقدّم في الهيكل القيادي لتنظيم «داعش»، ولا أن تكون المجموعة التي ظلت تعمل تحت اسم حزب «البعث» في العراق بعد حظره في مقدم الأطراف «السُّنّية» القليلة التي رحبت بالتوسع الذي حققه «داعش» صيف 2014. وهكذا يتبين واقعياً، وليس نظرياً فقط، أن كارثة «داعش» تُمثِّل الامتداد الطبيعي لمأساة «البعث»، مثلما يتضح أن الإرهاب يُعد إحدى النتائج المترتبة على الاستبداد واحتكار السلطة والثروة والإقصاء والتهميش.
مشاركة :