الابتكار من المفاهيم التي راجت في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، ظهر جلياً في حرص الجميع للإمساك به، لا على مستوى الأفراد، بل أيضاً على مستوى الدول، وليس أدل على ذلك من أن حكومتنا الرشيدة، قد خصصت العام الماضي 2015 للابتكار مثلما خصصت العام الحالي 2016 عاماً للقراءة وفي هذا رسالة مهمة مضمونها أن: القراءة هي الطريقة الأمثل لبلوغ هذا الهدف السامي، الذي بناء عليه يترتب بألا يكون البشر نسخاً مكررة عن بعضهم، بل أن يكونوا مختلفين وأن يكون لكل منهم بصمته وعلامته الفارقة. من الملاحظ بأن هناك خلطاً كبيراً بين الابتكار كمفهوم، و بين مفاهيم أخرى كالإبداع على سبيل المثال، إلى درجة أن البعض يعرّف اللفظين بذات التعريف، فيقول إن كليهما عبارة عن: نشاط بشري يقود إلى إنتاج جديد. على أساس أن الصفات العقلية والاجتماعية والنفسية والمزاجية هي واحدة عند المبدع والمبتكر، كما أن كليهما يتطلبان المرونة والطلاقة والأصالة والفائدة. ومهما كان الاختلاف بين اللفظين، فإن المهم في ظني أنهما يأتيان كنتيجة وثمرة من ثمرات القراءة الواعية والاطلاع الواسع والمستديم.. وهنا أقول: بأنه إذا كان أي فرد وكل فرد أياً كانت مهنته، بحاجة ماسة للقراءة بهذا المفهوم (الوعي الذي يكتسب صفة الديمومة) بغية النمو والحياة السليمة والصحية، فإن هناك صنفين من الناس ستكون حاجتهما للقراءة مضاعفة وهما: المعلم والأديب. ومن خلال تجربتي في التعليم التي استمرت قرابة العقدين من الزمان، وتوزعت بين التدريس والتوجيه التربوي، توصلت إلى قناعة أحببت مشاركتكم فيها، وهي أن المعلم من خلال الالتزام الذاتي والحر ببرنامج قرائي صارم، في مقدوره أن يحقق هدفاً غاية في الأهمية، هدفاً يسعى إليه كل إنسان أياً كانت طبيعته، وأياً بلغت درجة ارتباطه بغيره، وهو التميز والتفرد. التميز هنا، يعني بأن يكون معلماً غير عادي، معلماً مبتكراً، ولكن مبتكراً في ماذا؟ الإجابة هي في كل جزئية تتعلق بعمله، إن كان ذو صلة بالطالب أو بالمنهج أو به هو شخصياً. التعليم مهنة لا يقدر عليها إلا القديسون، وأصحاب السمات الخاصة، هذا إذا أراد ذلك المعلم أن يكون حياً للأبد، ويبقى حتى بعد أن يوارى جسده التراب. القراءة التي تبدأ ولا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. عادة يمكنكم أن تكتسبوها، شرط أن تحبوها، وأن تحتملوها إلى أن تلتصق بكم بدورها، وعندها لن يكون في مقدورها أن تتخلى عنكم. بالقراءة، تمكنت أن أحول هذه الحالة (المشكلة)، وهي الفارق الرهيب بين الجهود المضنية التي كنت أبذلها وبين النتائج الشحيحة التي تتحصل عليها الطالبات في امتحانات الفلسفة والمنطق. هي جهود، كانت تشهد بها عيونهن وملامحهن وهن يتابعن معي ويدوّن الملاحظات، وكيف كانت في نهاية المطاف تتحول إلى نتائج بائسة. بالقراءة، تمكنت أن أقفز على ذلك البؤس وأن أبلغ أعلى درجات الابتهاج والرضا. فقد حصل فرق رائع لم يأت من فراغ، جاء نتيجة بحث وتقص ودراسة طويلة توصلت من خلالها إلى أن السبب ليس لعيب فيّ أو في الطالبات، ولكن في ورقة الامتحان، التي كانت تأتي فوق المستوى المطلوب، تتعمد الصعوبة، تعتبر السؤال الواضح عيباً، لا يجوز أن يكون له وجود في ورقة امتحانية من معلمة، لا تدخر جهداً في سبيل تيسير المادة المجردة وجعلها مفهومة ومحسوسة، بل ويتبين لهن أثرها في حياتهن العملية. بعد ذلك جاءت الخطوة الثانية، وهي استبدال الأوراق العقيمة بأخرى سليمة، ووفق الشروط، هنا رحت أقرأ وأنهل من الكتب التي تتحدث عن الموضوع وتناقشه.. كتب لا تحصى، ظللت محتفظة بها في مكتبتي إلى زمن قريب، وبعدها تخلصت منها لأنني لم أعد في حاجة إليها.. كتب عرفت منها الأسرار، و كلما تمعنت في أحدها وتأملته كنت على الفور أهرع إلى التطبيق، إلى أن تمكنت من صياغة أوراق في منتهى الجمال، أوراق سليمة خالية من العيوب. فجاءت الخطوة الثالثة، وهي كيفية تطبيقها على طالبات المدرسة؟ هنا، سار الأمر بسلاسة، والسبب أن الطالبات بمرور الوقت اعتدنها. ولكن عندما انتقلت إلى التوجيه وكنت أعد أوراقاً للمدارس كلها حصلت المصادمة وكانت المشكلة: الرفض الميداني والشكوى. لكنني، ولأنني كنت مرتاحة نفسياً بأنني أسير في طريق الصواب، كان الإصرار مني يزداد بزيادة المواجهة، وكان الثبات على الموقف. سؤال قد يتبادر إلى الأذهان:أين كان دور المسؤولين عن التربية المهنية للمعلم؟! بالقراءة، لم أتمكن من تحويل نقطة الضعف إلى نقطة قوة، بل إنني تمكنت من الابتكار. وأنا بالفعل سعيدة اليوم، عندما أتذكر بأنني لم أضع يدي تحت خدي، ولم أتحسر ولم أندب حظي. والأهم من كل ذلك أنني لم أستمر في ظلم طالباتي. حقائق عدد محدود جداً من الأوراق الامتحانية التي يخضع لها الطلبة في المدارس بكافة المراحل، هي أوراق تمت صياغتها بشكل جيد.. كما أن أغلبها خلاف ذلك، جاءت مفتقرة إلى حد الرثاء لشروط الجودة: الوضوح.. التحديد.. التنويع.. مراعاة المستويات.. والفروق الفردية.. وعدم إغفال شريحتين هما: المتفوقون جداً، والضعاف جداً. ولا داعي للسؤال عن كيف يكون تطبيق هذه الشروط؟ ولستم في حاجة إلى الجواب، بأن ذلك يكون بطريقة بسيطة ومعقدة في نفس الوقت وهي أن: نتعرف نحن كمعلمين على المطلوب.. نهضمه.. ننفذ تدريجياً ومن ثم يأتي التعميم. كانت الورقة الامتحانية جزئية واحدة، وكانت مثالاً، وما عليكم إلا أن تتأملوا عملكم بنظرة فاحصة شمولية ومن ثم تفصيلية، وأن تقيموا أنفسكم قبل أن تقيموا طلابكم، وهذا بالتأكيد لا يأتي إلا بالقراءة. حقيقة صادمة أخرى: المدرسون لا يقرأون! يتحججون بالمناهج والوقت وعدد الفصول وكثرة أعداد الطلبة. هذا كله ليس في مصلحة المدرس نفسه قبل غيره. الجهل الآتي من العزوف عن القراءة سيضيع عليه جهوده التي لا يشك أحد في بذله لها. فيا أيها المعلم: لا تتوقع بأن يعطيك الموجه التربوي -إذا كان له وجود إلى الآن- ما يفيدك وما يغنيك دائماً، لا تتوقع من الغير أن يلقمك الحلول لأية مشكلة تواجهك في مهنتك. عليك أنت أن تسعى، وأن تطور مهاراتك وأن تتشوق لتجريب كل ما هو جديد ومثير في عملك إن كانت: الأساليب التي تعتمد عليها لإيصال المادة، فلا تكتفي بالتلقين الذي لم يعد ذا قيمة، لأن الهدف اليوم ليس المعلومة في حد ذاتها، ولكن كيفية الحصول عليها من قبل الطالب معتمداً على نفسه وعلى توجيهاتك.. هناك الأنشطة الصفية والأنشطة اللاصفية التي بصراحة مريرة أقول إنها مظلومة، وملغية، وإنها ماتت، وإن كانت موجودة بشكل صوري لا فائدة منه، بعد أن أصبحت معتمدة تماماً على المكتبات الخاصة، وعلى جيوب أولياء الأمور المساكين، الذين عجزوا، وبحت أصواتهم من التذمر والشكوى.. هل فكرتم كيف يمكنكم أن تغيروا قناعات طلابكم للأفضل؟ بحيث تكون في صالح الفرد والمجتمع، وذلك لإعادة المكانة المهدورة للقيم والأخلاق والمثل الصحيحة والأصيلة المعتمدة على الهوية والدين الإسلامي؟ القيم التي أؤكد وبقلق أنها تشوشت وتداخلت وصارت في طور التبخر من تلك الفضاءات التي يطلق عليها المدارس والجامعات، حتى لو كانت الشريحة التي أعنيها قليلة، وهذا ما أتمناه من كل قلبي. لكننا كمعلمين، مطلوب منا بحكم المهنة وقدسيتها أن نفرد لها خطة ووقتاً وطريقة. كل هذا، يتطلب منك أن تكون مرناً ومتجدداً وخبيراً أيها المعلم، وهذا ما لن تحصل عليه مهما كانت نواياك طيبة، هذا فحسب، سيكون بالقراءة التي ينبغي عليك أن تجعلها أسلوباً لحياتك. فالمسألة اليوم لم تعد ترفاً، ولم تعد رفاهية، بل هي أساسية وواجبة.. عندما دخلت عالم الكتابة، وفكرت بنشر مؤلفاتي، وهي سبع روايات ومجموعة قصصية واحدة، وكتاب لم أحدد جنسه إلا بكلمة نصوص، اعتمدت وكخطوة أولى على الملتقيات الثقافية، ألتقط ما يدور في أروقتها من مفاتيح. كثيرون غيري اكتفوا بالمفاتيح تلك.. لكنني، ولأنني يهمني التميز والتفرد بالدرجة الأولى، و بالمناسبة أكرر بأنه طبع بشري، فالكل يهمه التفرد مهما حصل بينه وبين غيره من التماهي، كنت أهرع للاستزادة، وسبر أغوار وفك رموز تلك المفاتيح التي كانت مصطلحات ومفاهيم أولية لا تسمن ولا تغني من جوع، وفوق ذلك، فهي في الغالب كانت غامضة ومشوشة. وضعت في اعتباري بأنني ينبغي أن أتعمق فيها، وما أن فعلت، حتى اتضحت وبانت تفصيلاتها، وصرت بفضل القراءة الذكية، من الذين تكونت لديهم حاسة وذائقة نقدية جيدة، يمكنني بواسطتها أن أقيم أعمالي أنا شخصياً وأعمال غيري. ولذلك، فأنا أعلنها بصراحة: أنني عرفت هفواتي، عرفت ثغرات كتاباتي بنفسي، وبسرعة لا تتوقعونها عندما ألزمت نفسي ببرنامج صارم للقراءة. وهذه فائدة القراءة التي تجعلك في الأخير مبتكراً مميزاً مختلفاً عن الجميع.
مشاركة :