د. عزالدين دياب تجددت الدعوات للاهتمام بالقراءة، وثقافة القراءة. كما تعددت الجهات والمنابر التي أخذت على عاتقها النهوض بقراءة الثقافة، ووعي القراءة لأهمية الثقافة، والنظر إلى ثقافة القراءة بعين مستقبلية ترى أن قراءة الثقافة بكل تنوعاتها الفكرية والمعرفية، هي المدخل إلى عالم المعرفة، ومجتمعات المعرفة، انطلاقاً من حقيقة تقول إن العصر الراهن هو عصر المعلومة بامتياز. والقراءة بهذه الحالة تطرح نفسها أمام الأجيال لتكون أمام مسؤولياتها في إشهار قراءة الثقافة وثقافة القراءة، بحيث تكون مواكبة لروح العصر وتحدياته. هذه الدعوات لم تأت من فراغ، وإنما لأن أهل الفكر وجدوا أن الفرضية التي تقول إن عدد الساعات التي يقرأ فيها المجتمع، تشكل أحد أهم المؤشرات لبلوغ المجتمع عصر المعلومة بكل حقائقه. كما وجدوا أيضاً أن وسائل الاتصال الاجتماعي أخذت الأجيال الشابة إلى برامجها لساعات طويلة، على حساب المطالعة الجادة. وما دام الأمر كذلك وهو كذلك، فإن تحديات ثقافة القراءة وقراءة الثقافة ستتعاظم تدريجيا، إلى المستوى الذي تتحول فيه إلى قطيعة بين الأجيال والمطالعة. إذاً؛ في هذه الحالة فإن الثقافة لازمة للقراءة بوصفها خلفيتها وثوابتها الفكرية والمنهجية، والعين التي ترى فيها الحياة بكل مشاهدها ومستجداتها. ويفيدنا التاريخ أن الإنسان خلال مسيرته وتجاربه الاجتماعية، كان على الدوام ينتج ثقافته المتغيرة ويجددها، لأنها الأساس الروحي، والأخلاقي والمادي لشخصيته الاجتماعية، ولبنيتها الذهنية. والثقافة كما عرف عنها تقوم بوظيفة تشكيل الإنسان بحيث تكون عاداتها عاداته، وأعرافها أعرافه. وتلعب نحل المعاش، على حد تعبير ابن خلدون، أهم عوامل هذا التشكيل. ولاشك أن ثقافة الحوار تعد خلاصة لقراءة الثقافة، وما يدور حولها من حوار ثقافي، وما يستخلص من وجهات نظر تدور حول القيم الكبرى، مثل المواطنة، والعقد الاجتماعي، والحقوق، والواجبات، وقيم ثقافة الاعتراف بالآخر.. إلخ. وهذه الحالة الثقافية الحوارية المجتمعية تنشط الذهنية العامة للشخصية الاجتماعية باتجاه الشأن العام، كما تثير الأسئلة حول جدلية تطور القيم لكبرى، وإسهامها في تحقيق التراكم الثقافي. وإذا كانت الثقافة، من منظور علم الإنسان الثقافي، تشيد البنيان العمراني، على حد تعبير ابن خلدون، بكل وقائعه البنائية من أعراف، وعادات، وتقاليد ونتاج مادي، وروحي، فإن ثقافة القراءة تعني بكل وضوح ما ملكت من قيم وأعراف، وعادات، وكتب، وأفكار، وحبر وقلم.. إلخ. وما دامت ثقافة القراءة على هذا النحو وهي كذلك، فإن مكوناتها مختلفة في جبلتها داخل المجتمع من مرحلة تاريخية لأخرى، ومن مجتمع إلى آخر أكثر تقدما وتطورا. وسؤال ثقافة القراءة، وقراءة الثقافة عن حالها وحضورها في الحياة العربية، وما إذا كانت مؤشراتها واضحة المعالم، وقادرة أن تؤسس لخصوصية حضارية، بوصفها لحظة من لحظات العالمية، ومدركة من قبل الأجيال، وهي تمضي في صيرورتها، بحيث يمكن القول، على سبيل المثال، هل للقراءة ساعاتها، وأوقاتها المحددة في ذهنية الأجيال، و خاصة جيل الشباب؟ وهل لها آدابها المتمثلة باحترام الوقت، وقيمه الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل اقتناء الكتب عادة أصيلة في حياة الأجيال؟ وهل يقتصد الشباب من مخصصاتهم اليومية لشراء الكتب؟، أضف إلى ذلك المهرجانات الثقافية المسكونة بجديتها وقدرتها على محاكاة اهتمام الشباب، بحيث تقام في زمانها ومكانها، وخلال المناسبات الوطنية والروحية. والحق أن صدر الحياة اليومية صار أرحب وأوسع، وأكثر جدوى للمهرجانات التي تقام لثقافة القراءة وقراءة الثقافة في التلفاز والمحطات الفضائية، وخاصة برامج الترفيه المقرونة بالأنشطة الفنية، وأدوات التواصل الاجتماعي، التي دخلت البيوت، والمقاهي، والنوادي، في كل المدن العربية. وحبذا لو اقترنت تلك المهرجانات وبرامجها ومشاهدها بالواجبات الأساس للمجتمع من وطنية، وتراثية، وروحية، لأن في هذا الاقتران مستويات من إلزام القارئ بأن يكون مؤمناً بأهمية ارتحال نظره بين صفحات الكتب والأفكار يسأل، ثم يحلل، ويفسر ما قرأه دون أن يخرج عن مألوف فلسفة الثقافة. والمهم في مهرجانات القراءة وبرامجها أن تكون مستوعبة لخصائص الشباب الاجتماعية والذهنية والفكرية والنفسية، وما يحيط بهم من ظروف وما يواجهونه من تحديات، ثم ما بين الشباب من تنوع في درجات الوعي، والرغبات، والهوايات، والحاجات، في إطار القواسم المشتركة الحاضرة في ثقافة المجتمع. على أن تكون هذه الخصائص مدركة بناء على دراسات ميدانية حقلية. على أن تجرى نقاشات مفتوحة بين مجموعة من القراء تمهيداً لمعرفة ما استخلصه أفراد هذه المجموعة من فوائد، تقومها اللجان المتخصصة تمهد فيها مكافأة الأوائل، وأن تعرض هذه النقاشات على الهواء. والحقيقة أن إنشاء مكتبات متنقلة بين الأحياء والحدائق، يعد من أحد أهم آليات إحياء ثقافة القراءة وقراءة الثقافة، على أن تصطحب المكتبات المتنقلة بأجهزة عرض وكاميرات لعرض لمحات من شخصيات فكرية وأدبية كانت القراءة وراء إبداعهم، بحيث تكون هذه الشخصيات قدوة للقراء، واقتناء الكتب، واتساع مساحة القراءة والقراء، وخاصة من أبناء فئات الدخل المحدود. وبدل أن تكون ثورة المعلومات والاتصال، وما قدمته من إنجازات على طريق التواصل الاجتماعي أداة جذب واستقطاب للشباب، على حساب القراءة والتثقيف الذاتي، لابد أن يعاد النظر بمهامها التثقيفية، بحيث تكون برامجها وموادها لصالح ثقافة القراءة.. وقراءة الثقافة، وتأصيل فوائدها على ضوء صلتها بالأمن الثقافي، بكل مضامينه ذات الصلة بالهوية والانتماء، والوفاء للوطن بالإبداع الفكري. والحق أن التأكيد على أهمية الدراسات الحقلية التي تتم عن اهتمامات الشباب وهواياتهم واختياراتهم، والظروف التي تحيط بهم، ومفهومهم لأهمية القراءة والتثقيف الذاتي، تشكل الخطوة الإجرائية لإقناع الشباب بأهمية القراءة في تحقيق إضافات فكرية إبداعية. بناء على ما تقدم فإن زرع حديقة كبيرة بالحوافز المشجعة على القراءة، لا بد أن يأتي بفوائده على وجه السرعة، وهذا الزرع مهمة مصيرية لا تقبل التأجيل. وعلى النخب الفكرية من القطاع الجدي من أبناء الوطن إنجاز هذه المهمة، فقد أصبحت المسافة الحضارية بين الشعوب التي تقرأ، والشعوب التي لا تقرأ كبيرة وخطرة على السيادة والكرامة الوطنية. ويحق لهذه الورقة أن تتمثل حال ثقافة القراءة.. وقراءة الثقافة بعين مستقبلية داخل أوطاننا، فتجد نفسها مصحوبة بعتاب توجهه لمن يحجب عينه، ويمنعها من الترحال بين صفحات الكتب والمجلات التي تحكي قضايانا، وتعالج واقعنا وتحدياتنا الراهنة، وتقول له بوضوح لا لبس فيه كيف لك يا بن وطني أن تكف نظرك عن ثنايا كلماتي، وما ساكنها من معارف، وأقوال مأثورة، هي بالأساس دليل عملك في حياتك اليومية للتعامل مع ما تواجهه من تحديات، فأنا بحق تجربتك الاجتماعية، وسؤالها الذي لا يتوقف، فاقترب من كلماتي وعايشها بجدية ويقظة، وابحر في ثقافتي لترى الحاضر والمستقبل، وكيف تكتب البداية في سباق التمدن والتطور القائم بيننا، وبين الأمم المتقدمة، فالذي يكتب البداية يكتب النهاية، واجعلني مفاتيحك لرؤية الكون وأسراره وسننه، وكلمة السر في السباق الحضاري الجاري بين الأمم، واعلم أنك إذا أزحتني من أمام نظرك فستسير لا محالة على مفرق الطرق. واجعل من الكتاب خير صديق لك، وخذه معك إلى كل مكان، أين حللت وأين ذهبت.
مشاركة :