لا أحد يختلف على أن أمة العرب تعيش مناخات الأزمة ومخاضات الانتقال، وأن العمل الثقافي العربي بمجمله - ومنه الصحافة الثقافية العربية - انعكاس مباشر لكل هذه المناخات والمخاضات. من يقود من؟ هل المجتمعات تطرح شخصيتها وآيديولوجيتها من خلال العمل الثقافي، أم أن المثقف من خلال أدواته من صحافة وغيرها، هو الذي ينظّر للمجتمعات ويساهم في تشكيلها وتوجيهها؟ يبدو أن نقاشا كهذا لا طائل من تحته، على الأقل في إطار اليومي والمباشر والانتقالي الذي نعيشه. لا بأس في أي موقف نقدي تأخذه في هذا الاتجاه سواء رأيت المثقف بوقا للأنظمة أم نصبته نبيا للحقيقة. لكن الاختلاف سيقع حتمًا عندما تتحول المساحات المخصصة للغو بعض المثقفين في الصحف العربية إلى ساحات لتصفية الحسابات الشخصية وإطلاق النعوت المسيئة بحق الآخرين وإفراغ تراكمات مشكلاتهم الذاتية من خلال إطلاق النار على كل من لم توافقهم مزاجاتهم اللحظية. لا مثقّف على الإطلاق فوق مستوى النقد، حتى وإن تولى إدارة قسم الثقافة في صحيفة، ولا عمل أدبيا أو فنيا يتجاوز التقييم، حتى لو فاز بجائزة نوبل. لكن يبدو أن النقد والتقييم - عند الذين تملكتهم الشخصنة - صارا صنو الإدانة والاتهام وتصيد الهفوات والتشنيع على الآخرين. وهو ما انتهى بنا إلى موجة الإسفاف الراهنة المتسمة بالتسطيح في فهم الظواهر، والاجتزاء دون وجه حق، والتعميم بإطلاقات غير محكومة بأي منطق، واللاموضوعية البحتة، والشخصنة، وفوق ذلك كله ادعاء الريادة وتولي مناصب الحسبة وزعامة المقيمين تأسيسًا على رصيد إبداع شعري أو فني في زمان آخر. بالطبع، النقد الأدبي والفني والفكري - وهو كما أعتقد أعلى أشكال الإبداع - ليس من ذلك الهبوط في شيء. النقد - عند المتعلمين كي لا نقل المثقفين - يعني عبور النصوص والأفكار وتقييمها وتحليلها وتفسيرها بأدوات نقدية ومناهج أدبية وفكرية من دون إطلاق أحكام نهائية، ومن دون المساس بالجوانب الشخصية. النقد محاولة للفهم، قراءة - بالمفهوم الكانطي - لشروط إمكان الوجود، وحوار مع خيال استقل عن كاتبه، ورؤية مرحلية ابنة نقطة معينة في الزمان والمكان لا تلزم أحدًا بعدنا، وهو بالتأكيد ليس بمناسبة للذم أو استعراض لانحيازات مسبقة. في ظل هذا التصور، ليس مقبولاً منكم يا من نراكم - نحن معشر القراء العاديين - في طليعة ثقافتنا العربية، أن ينتهي بكم المقام إلى تقييم روائية من خلال لون شعرها أو مرجعيتها الطائفية، أو إلى تقييم شعراء - بعضهم اعترفت بقيمتهم دوائر ثقافية وأكاديمية لا يمكن تجاهلها - بأنهم فاشلون وتأطيرهم بما لا يشبههم ونعتهم بما طاب من ألفاظ غير لائقة بمعشر المثقفين، لأسباب، الله وحده يعرفها والطرف الآخر، أو أن ينتقد فائزا بأرفع جائزة روائية عربية بسبب منصبه الوظيفي من دون الإشارة إلى محتوى نتاجه. ما نريده منكم - في ظل هذا الهبوط الكبير والأزمات الشاملة - أن تكونوا ملجأ لنا، وأن تعبروا بنا تعقيدات المرحلة التي نعيش، وتفسروا لنا أي بنية فكرية وثقافية تشكلنا. نحن - معشر القراء العاديين - نريد أن نفهم ماذا في بنية رواية «بوابات أرض العدم» ما يجعلها غير مستحقة للثناء الاستشراقي الواسع الذي حصلت عليه - سواء أكتبتها شقراء علوية أم سمراء سنية -؟ ماذا في شعر «بيضون» ما يجعله غير مؤهل لتولى مقام منصب «ملك قصيدة النثر المزعوم»؟ كيف أتصالح مع فكرة اتهام السلطاني بأنه شاعر فاشل، وهو الذي تنشر أشعاره مجلات أدبية رفيعة في الغرب قبل الشرق؟ هل الصحف التي تنشر سبابا بحق زملاء المهنة أفضل حالاً من جرائد بيروت الفقيرة أو جرائد لندن الثرية ولماذا؟ وكيف تجاوزت صحيفة لبنانية ناطقة باسم حزب معروف قطوع الانتقاد، وهل مثقفوها من قماشة الأنبياء؟ بينما تنصب الشتائم على صحف الخليج قاطبة؟ ونسي الشاتمون أنهم كانوا يكتبون في هذا الصحف، وقسم كانت له أعمدة فيها؟ ما الذي تغير بين الأمس واليوم؟ وأخيرا، لماذا تقولون لنا إن «مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة» لربعي المدهون، لا تستحق التكريم العالي الذي حصلت عليه، بغض النظر عن أن رواها فلسطيني يكتب في «الشرق الأوسط» أو موريتاني يكتب في صحيفة أخرى؟ بغير ذلك... نراكم أيها السادة جزءا لا يتجزأ من مشهد الظلام الكبير الذي منه تشتكون!
مشاركة :