من الطبيعي أن يثير ملف (التقاعد) وهواجسه مساحة كبيرة من القلق بين أوساط المواطنين، خاصة بين الذين أمضوا سنوات طويلة في العمل، ويتأهبون للمغادرة، ليستمتعوا بالامتيازات التقاعدية المستقرة والتي من الواضح ان الصناديق التقاعدية لم تعد قادرة على الوفاء بها بذات الكفاءة. ومن الطبيعي أن تتعالى أصوات المواطنين متسائلين عن حقيقة ما يثار من معلومات حول هذا الملف، تزيدها ماكنة الشائعات خطورة في غياب المعلومات الصحيحة والقطعية. ومن الطبيعي ألا تقف الجهة الرسمية تتفرج على الصناديق التقاعدية وهي تتجه سريعًا نحو الإفلاس والعجز الكاملين، بما يهدد مصالح ومستقبل المتقاعدين. ومن الطبيعي أن تعمل الدولة على معالجة هذا الخلل باجتراح الحلول التي تنقذ الصناديق وتحافظ على مصالح ومكتسبات المتقاعدين. الأمر غير الطبيعي هو أن يبقى هذا الموضوع قيد الكتمان - بالرغم من حساسيته البالغة - أو أن يبقى خارج النقاش العام متروكًا للتأويلات وللشائعات التي تثير المزيد من القلق، وتشيع حالة من الغضب والحنق. فإذا كان وضع الصناديق التقاعدية قد يثير القلق، وفي حاجة ماسة وعاجلة إلى معالجة، طالما أثارته الحكومة من خلال ممثليها في أكثر من مناسبة، عبر السنين أمام مجلس النواب، فإن الحل البسيط والبديهي هو البدء في وضع النقاط على الحروف، لمعالجة هذا الملف على نحو يوازن بين وقف تدهور وضع الصناديق من ناحية، وحماية حقوق المشتركين في النظام التقاعدي من ناحية ثانية، مع الحد من الأضرار إلى أقصى درجة ممكنة. فمن بين ما يثار اليوم حول المعالجات المحتملة لهذا الوضع ما يتعلق بتمديد سن التقاعد الى 65 سنة وزيادة نسبة الاستقطاع، وإعادة النظر في صرف مكافأة نهاية الخدمة وغيرها من الإجراءات التي يتم تداولها إعلاميًا دون رد واضح من الجهات الرسمية، وهي أمور يمكن مناقشها من خلال ندوات ولقاءات إعلامية علنية، ومن ذلك أن مد سن التقاعد في اقتصادات الدول المتطورة قد جاء كنتيجة للتراجع الديموغرافي ونقص اليد العاملة، حيث أدى التراجع الديموغرافي إلى تمديد السن القانونية بما يسمح بتغطية النقص في اليد العاملة، من ناحية ونتيجة الخلل في نظام التضامن بين الأجيال بحكم أن عدد الذين يعملون قل لدرجة لم يعد من الممكن تغطية معاشات التقاعد. وبذلك يمكن قلب هذه المعادلة إذا ما تم تمديد سن التقاعد، وهذا أمر لا ينطبق على واقع الحال، بما يعني أن التمديد في هذه الدول هو الاقتصاد المتطور الذي يستوعب اليد العاملة المتوافرة. إذ أن العكس يؤدي وبدون أدنى شك إلى حرمان الشباب الداخلين إلى سوق العمل من فرص عمل كانت لتتوفر لو لم يتم زيادة سن التقاعد. أما عندنا فإن شروط تمديد السن لا تتوفر، فالاقتصاد غير قادر على استيعاب اليد العاملة الداخلة إلى السوق المحلي، وأرقام البطالة مرشحة للازدياد، بما يجعل تمديد سن التقاعد مضادًا للمصلحة العامة للاقتصاد والتنمية، حيث سيؤدي الى تضييق فرص العمل أمام الخريجين، فضلاً عن أن عدد السكان في ازدياد مستمر، وبالتالي لا توجد مشكلة ديموغرافية في المجتمع كما هو الحال في البلدان المتقدمة، كما ان الشخص المسن الذي تخطى الـ60 عامًا اذا ما بقى في العمل سيكون مردوده في العمل ضعيفًا، كما ان بقاءه في العمل مدة طويلة من شأنه إضعاف صحته بما يستوجب صرف أموال أكثر من قبل الضمان الاجتماعي. أما الأشخاص الذين يتمتعون بصحة جيدة وطاقة كبيرة فبالإمكان مد سن تقاعدهم اختياريًا إذا كانت هنالك حاجة لهم، كما الأشخاص الذين بلغوا سن التقاعد وما زالوا يتمتعون بقدرات فكرية يمكنهم الاستمرار في العمل بعد الستين تعاقديًا عند الحاجة، كما بالإمكان مد سن التقاعد الى 65 ولكن بشكل اختياري لمن يرغب في ذلك. وتشير أغلب الدراسات المختصة في انقاذ الصناديق التقاعدية في العالم إلى أفضل طريقة لمعالجة العجز او الإفلاس، واقلها تكلفة هي: - زيادة نسب الاقتطاع من الموظفين تدريجيًا بما يحسن من أوضاع الصناديق. - الحد من التقاعد المبكر بالنسبة للموظفين والموظفات على حد سواء، إلا لمن بلغت سنوات خدمتهم الفعلية 35 سنة او أكثر. - إلغاء اية امتيازات تشجع على القاعد المبكر، ومنها شراء سنوات خدمة افتراضية، دون المساس بحقوق الموظفين والعمال الثابتة في مكافأة نهاية الخدمة، او غيرها من الامتيازات المستقرة. خاصة بالنسبة للفئات العمرية التي باتت على وشك التقاعد، حيث لا يجوز تغيير قواعد اللعبة في الرمق الأخير، ففي جميع التجارب الدولية لمعالجة الخلل في أنظمة التقاعد يتم استثناء مثل هذه الفئات بوضع فترة سماح تتراوح بين 3 و5 سنوات على الأقل. هذا مثال واحد عن النقاط المتداولة حاليًا بين المواطنين، وسوف يكون الاستماع إلى وجهات النظر المختلفة، وخصوصًا الى اراء ومقترحات المختصين والخبراء امرًا ضروريًا، ليس فقط للحفاظ على مكتسبات المواطنين، وإنما للمحافظة على توازنات صناديق التقاعد وضمان استمرارها أيضًا لأن في ذلك مصلحة وطنية مؤكدة. إن الشفافية والوضوح والمصالحة من شأنها جعل الناس يحملون أوجاع الحلول والإجراءات الصعبة، مثلما تحملوا رفع أسعار البنزين ورفع فاتورة الكهرباء، ومثلمها هم مستعدون دائما لتقبل الإجراءات المنصفة والضرورية التي لابد منها، لأنهم يدكون ويعون المخاطر والتحديات. همسات في سنة 1994 حدد البنك العالمي ما أسماه بـاستراتيجية الدعائم الثلاث لإصلاح أنظمة التقاعد في العالم: - الأولى، تقليص نظام التوزيع التضامني (الحماية الاجتماعية). - الثانية الرسملة من خلال توظيفات أموال الادخار وتسيرها من خلال مجموعات مالية خاصة. - الثالثة، تشجيع الرسملة الفردية (كادخار تقاعدي خاص) تديره البنوك وشركات التأمين. وقد أدى الأخذ بمثل هذه التوصيات في الغالب إلى استفحال أزمة التقاعد في العالم، وضرب مكاسب الموظفين وخفض المعاشات التقاعدية، ودفع العمال والموظفين إلى البحث عن معاشات تكميلية.
مشاركة :