«أنا لن أهتم كثيراً بما اذا كان غودار قد تبع رواية البرتو مورافيا حرفاً بحرف أم لم يتبعها على الإطلاق. ما يهمني هنا هو أن غودار «قدّم فيلماً ممتازاً. فيلماً غودارياً بامتياز». هذا ما كتبه في العام 1963 لدى عرض فيلم «الإحتقار» لجان – لوك غودار واحد من كبار النقاد الفرنسيين في ذلك الحين، جان – لوي بوري، عن سادس فيلم روائي طويل حققه ذاك الذي كان، منذ فيلمه الأول، «على آخر رمق» (1959) اعتبر على الفور واحداً من المؤسسين الرئيسيين للموجة الجديدة في السينما الفرنسية الى جانب فرانسوا تروفو وكلود شابرول وجاك ريفيت وإريك رومر. والحقيقة ان غودار كان يقدم في «الاحتقار» ثاني فيلم له بالألوان، بعد «أن تعيش حياتك» (1962)، وأول فيلم له مأخوذ عن نصّ أدبي. فكما ذكرنا، نقلاً عن بوري، كان «الاحتقار» مقتبساً عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا. لكن الحقيقة الأهم، هي أن لا مورافيا تعرّف في الفيلم على روايته، ولا هو أعلن انزعاجه من ذلك. ففي نهاية الأمر جاء «الاحتقار» فيلماً غودارياً، وفيلماً عن السينما. أي أن ما لدينا هو انما كان فيلماً في داخل الفيلم، وهو نوع ستعود اليه السينما كثيراً، ولعل أهم فيلم حقق في هذا السياق بعد فيلم غودار، في فرنسا، كان لزميله في «الموجة الجديدة» فرانسوا تروفو «الليل الأميركي» (1972). ولكن هل كان «الاحتقار» حقاً فيلماً عن السينما؟ > مبدئياً، نعم. فما لدينا هنا انما هو فيلم يتابع عملية تصوير وكواليس تصوير فيلم آخر. وفي تلك الكواليس، لدينا طبعاً حكاية الإنتاج والمناورات الصغيرة والعلاقات الصاخبة وضروب سوء التفاهم والإغواءات التي لا تتوقف. ثم لدينا طبعاً تلك العلاقة، علاقة القط/ الفأر الأبدية بين المنتج والمبدع. انها تشكل جزءاً أساسياً من موضوع الفيلم، لكنها في الوقت نفسه، تشكل المصير الذي آلى اليه، في الواقع، مصير فيلم «الاحتقار» نفسه. فهو كان، كما حال فيلم «الأوديسة» الذي يصوّر في الفيلم، من إنتاج أميركي. ويروى انه حين أُنجزت نسخة الفيلم الأولى وأُرسلت الى المنتج الهوليوودي سام ليفاين لكي يعاينها، صرخ غاضباً: «يا إلهي... ليس هذا ما كنت أريده! أين هي مفاتن بريجيت باردو التي وُعدت بتصويرها في الفيلم؟» وكانت النتيجة أن أصدر أوامره بإعادة تصوير العديد من المشاهد، وسط غضب غودار واشئمزازه. غير أن غودار ما كان من حقه ان يغضب. فهذا تماماً ما يحصل حتى داخل الفيلم... وهذا هو مصير هذا النوع من الانتاج. فهل كان يتوقع معجزة حين وافق منذ البداية على أن يحقق الفيلم من انتاج أميركي جاعلاً منه صورة ساخرة لذلك الانتاج؟ > قلنا أعلاه ان «الاحتقار» فيلم عن السينما. فيلم داخل الفيلم. لكنه أكثر من هذا، وربما في الوقت نفسه، فيلم عن المال والحب، كما عن البحر. هذا البحر الذي يحيط بكل شيء هنا، حيث يجري تصوير فيلم «الأوديسة» في جزيرة كابري الإيطالية الساحرة. البحر هنا أساسي، وليس أدل على هذا من أن موضوع الفيلم المصوّر داخل الفيلم الذي نشاهده، ليس سوى ملحمة الأوديسة وحكاية عودة أوليس، قاطعاً البحار ليلتقي امرأته بينيلوبي بعد غياب. ونعرف ان البحر هنا هو سبيله الى ذلك اللقاء. ونعرف ايضاً، كمتفرجين متابعين لسينما غودار منذ ذلك الحين: أن البحر سيشغل بال هذا المخرج كثيراً، هو الذي ينتمي الى منطقتين في العالم لا علاقة لهما بالبحر على الإطلاق: سويسرا، وباريس. وهكذا، مثلاً، سنراه في فيلم لاحق له هو «فيلم – اشتراكية»، كما في فيلم سابق عليه هو «موسيقانا» يجعل البحر شخصية أساسية. أما في «الاحتقار» فإن البحر يشكل إطار الموضوع، ويفرض على الشخصيات مزاجها العام، وعلى الفيلم طابعه كفيلم رحلة، حتى وان كان ما يدور فيه ثابت في مكان واحد تقريباً: فيلا مالابارتي في كابري. > يدور الفيلم أساساً من حول كاتب السيناريو الباريسي بول جافال الذي تم التعاقد معه من قبل المنتج الأميركي بروكوش (وقام بالدور جاك بالانس)، لكتابة سيناريو مقتبس من ملحمة الأوديسة، يدور من حول تجوال أوليس، على أن يقوم بإخراج الفيلم المخرج الألماني الأصل فريتز لانغ (ويقوم بالدور هنا فريتز لانغ نفسه بعصبة عينه الشهيرة). وهكذا إذ يُطلب من بول جافال، ان ينتقل الى كابري لكي يقوم بكتابة مشاهد الفيلم ميدانياً، يصحب معه زوجته «كاميل» (بريجيت باردو، التي كانت في عز نجوميتها في ذلك الحين، والتي يتبين لنا من خلال تعليق سام ليفاين منتج «الاحتقار» انه انما وافق على وضع أمواله في الفيلم من أجلها...). في كابري، اذ يستقر المقام ببول وزوجته هناك، يُطلب من بول ان يعيد كتابة العديد من مشاهد الفيلم ومن دون ريب كي يصبح العمل أقل نخبوية وأكثر تجارية. يحاول ان يتمرد، ولكن ما باليد حيلة. المال غالب هنا، وعلى طريقة المثل الإنكليزي القاتل: من يدفع أجر الزمّار، يقرر ما ستكون عليه الأغنية، يرضخ بول مع علمه ان تلك التعديلات ستتطلب تمضية مزيد من الوقت في المكان، في وقت بدأت تظهر على كاميل إمارات الضجر. بل حتى إمارات الغضب، اذ يخيل اليها، ذات يوم، أن زوجها يتركها عمداً في صحبة المنتج الذي الى وفرة ماله، لا تخلو شخصيته من جاذبية. بيد ان كاميل تقاوم مفضلة ان تبقى طوال الوقت في صحبة بول، فهي ليست لا للبيع ولا للإيجار. ومن هنا تخلق كل تلك التناقضات وضروب سوء التفاهم التي ينتهي بها الأمر الى تمزيق الزوجين. > انطلاقاً من هذا، بدا «الاحتقار» في النهاية، فيلماً عن المال والعواطف. وهما أمران يقدمهما لنا غودار بوصفهما عنصرين أساسيين من عناصر السنيما. اي منذ ذلك الوقت المبكر، سدّد غودار – الذي لن يفوته منذ ذلك الحين ان يسدد سهامه الى المنتجين والى كل اولئك الذين يسيطرون على الصناعة السينمائية -، رصاصة موجعة الى ذلك التضافر «الغريب» بين المال والفن في هذا المنتج الابداعي. ولسوف تثبت السنون وحكايات علاقات الافلام بمنتجيها كم كان غودار دائماً على حق. > لكن هذا يجب ألا ينسينا الجانب الآخر من الميدالية: الأداء الفني لذلك المخرج الذي كان، بعد، في الثالثة والثلاثين من عمره، وحقق شهرة كبيرة بمجموعة من أفلام طويلة وقصيرة قلبت مفاهيم لغة الانتاج، كما قلبت صورة العلاقة بين السينما والعاطفة. ولسوف يقال لاحقاً انه ربما يكون أفضل ما حققه غودار في هذا الفيلم هو انه أعطى بريجيت باردو، واحداً من أفضل أدوارها، بحيث ان النقاد شبهوا عمله معها في الفيلم بعمل أولئك المخرجين الكبار (من ستروهايم الى ماموليان) الذين أعطوا فاتنات سينمائيات مثل مارلين ديتريش وغريتا غاربو، امكانية التحول من نجمات الى ممثلات حقيقيات، ما جعل جان – لوي بوري يقول عن «الاحتقار» انه سيوصف دائماً بأنه فيلم لبريجيت باردو بقدر ما هو فيلم لغودار. > على رغم هذا كله، لم يحقق الفيلم حين عرض نجاحات جماهيرية كبيرة، حتى وان كان سيحقق لاحقاً سمعة جيدة كواحد من أفضل أفلام صاحبه، عند بداياته على الأقل، علماً أن مزاداً علنياً أجري في العام 2013، لبيع النسخة المكتوبة الأصلية لسيناريو الفيلم كما صاغه جان – لوك غودار، أسفر عن بيع النسخة بأكثر من 144 ألف يورو، وهي معروضة اليوم في «متحف الرسائل والمخطوطات» في باريس. > أما غودار فإنه واصل طريقه السينمائية بعد ذلك، ولا يزال حتى الآن، كواحد من كبار السينمائيين الأوروبيين، محققاً عدداً كبيراً من الافلام، التي نادراً ما لجأ فيها الى اقتباس نصوص أدبية، حتى وإن كان الأدب شكل دائماً احد محاور موضوعاته، وصولاً الى حضور محمود درويش في واحد من آخر أفلامه: «موسيقانا».
مشاركة :