كلما أدرت مفتاح التلفاز صدمتنى أخبار القتال الدامى المستمر فى غزة، فإذا أدرته إلى محطة أخرى كانت الحرب الخطيرة بين روسيا وأوكرانيا، فإذا ضقت ذرعًا بالاثنتين حركت مؤشر التلفاز لكى أتابع أحوال اللاجئين والنازحين فى فلسطين ولبنان، وقبل ذلك ما يجرى فى السودان من محاولة تمزيق واحدة من أكبر دول إفريقيا وأكثرها أهمية، فضلاَ عن أنها دولة المعبر العربى الإفريقى، ثم تجرى أمامى أخبار الصراعات الدامية فى أصقاع الدنيا وأنحاء المعمورة لأدرك أننا نعيش عصرًا لا يعرف الأمن ولا يرغب فى الاستقرار ولا يهوى الاعتدال، وليست هذه نغمة متشائمة أنفرد بها بل هى سمة عامة تسيطر على البشر فى كثير من أنحاء الكوكب، فالحروب الدامية والنزاعات المسلحة تفرض نفسها على الساحات الدولية والإقليمية بل وتحمل فى طياتها أيضًا نذر الفناء فى ظل حرب الإبادة التى يمارسها الإنسان ضد الإنسان بوحشية منقطعة النظير وبأساليب كنا نتوهم أن المدنية المعاصرة والتقدم فى نوعية الحياة وأساليب النهوض سوف تؤدى نهايتها إلى احترام حقوق الإنسان المعاصر فلقد تكاثرت السحب فى سماوات المعمورة وظهرت علامات كثيرة من المعاناة التى تعيشها شعوب مختلفة ومجتمعات عديدة حتى إن التقدم العلمى والتطور التقنى جرى توظيفهما لخدمة أسلحة الدمار الشامل وأدوات القضاء على البشر وهدم المنازل على قاطنيها وترويع المدنيين حتى لم تسلم الكائنات الأخرى من ذلك الخراب الذى يقضى على الأخضر واليابس والإنسان والحيوان وهو ما ترك أسوأ بصمة فى عصرنا على جبين البشرية، ورغم كل الجهود التى بذلتها وتبذلها الهيئات الدولية والجهات المعنية فإن جرائم الحروب لاتزال ماثلة أمام الأعين شاهدًا على هذا العصر وما فيه من تجاوزات، ويهمنا هنا أن نسجل الملاحظات التالية: أولاً: إن ما يجرى أمامنا الآن ويدور على بعض الساحات العربية إنما هو دليل دامغ على ارتداد البشرية إلى عصور الظلم والظلام، حتى بدأت الشكوك تتواتر بين كبار المفكرين والفلاسفة بأن العالم مقدم على عملية انتحار كبرى، لأنه يملك وسائل تدمير الذات والقضاء على الأمم والحضارات وتوجيه التكنولوجيا ضد المصالح الأساسية للبشر بغض النظر عن ألوانهم ومعتقداتهم وأصولهم وأعراقهم، وكأنما كتب على جبين العالم أن تظل قصة قابيل وهابيل فصلاً متكررًا فى تاريخه، ورغم صيحات التحذير وأراء الحكماء فإن البشرية تبدو ماضية فى طريق طويل نحو الهاوية غير مدركة تمامًا ما يهدد الجنس البشرى من مخاطر تبدأ بالحروب وتستمر بالأوبئة مع استخدام كل أدوات التدمير الذاتى. ثانيًا: إن ارتداد البشرية فى العقود الأخيرة إلى التركيز على الاختلافات العقائدية والمنطلقات الدينية هو دليل آخر على أن البشرية فى شيخوختها ترتد مرة أخرى إلى أخطاء عديدة مارستها فى طفولتها، فحتى الصراعات السياسية التى كانت بريئة من الدوافع الدينية خرجت هى الأخرى من الشرنقة لكى تعيد عقارب الساعة إلى عصور التعصب واستعادة خطاب الكراهية ونشر سموم الحقد بين الأمم والشعوب. ثالثًا: يبدو أن ما تردد منذ عقود قليلة عن صراع الحضارات لم يكن وهمًا كله، بل كان تعبيرًا عن رؤية مستقبلية متشائمة، ولكنها بدأت فى التحقق والظهور على نحو غير متوقع، حتى بدأ صراع الأديان داخل الأوطان يطل من جديد ويوحى بأن البشرية لا تتقدم للأمام ولا ترجع إلى الخلف ولكنها تتجه إلى الأسفل فى مكانها ونفس مواقعها ومراكز وجودها، إننى لست مغرقًا فى التشاؤم، ولكننى أزعم بأن رؤية زرقاء اليمامة لم تكن خطأ كلها، ولكنها كانت ترى الأمور من منظور قد لا يتبناه غيرها أو يؤمن بوجوده سواها. رابعًا: إن السلم والأمن الدوليين يواجهان اليوم اختبارًا يفوق كثيرًا ما كانا عليه قبيل الحربين العالمية الأولى والثانية إذ إن بؤر الصراع المسلح تغطى رقعة حساسة فى الشرق الأوسط وشرق أوروبا وأطراف أخرى من العالم، فضلاً عن النزاعات الداخلية والحروب الأهلية مع ظهور حركات تدميرية مثل الحركة الصهيونية وعواقب الإرهاب الفاشى الذى ينذر بالقضاء على مظاهر التمدن والتحضر واستبعاد الشرعية الدولية والتركيز على قانون القوة بل والاقتراب من شريعة الغاب، ولقد رأينا فى العقود الأخيرة أنماطًا من مجرمى الحرب وقتلة الأطفال ومن لا يريدون للبشرية طريقًا تسلكه نحو مستقبل أفضل تغطيه مظلة حقوق الإنسان وترفرف عليه رايات العدالة التى لا يخبو نورها أبدًا. إن الحروب الإقليمية والنزاعات المسلحة والصراعات القائمة تنذر كلها بأننا نقطع حاليًا الشوط الأخير فى لهاث البشرية نحو غاياتها العادلة ومستقبل أجيالها القادمة.
مشاركة :