نعم سفيرَنا الغالي، هكذا هي الأيام العامرة بالجمال؛ تمضي سريعًا، وتزداد سرعتُها أكثر وأكثر كلما اكتست بعبق أنفاس الطيبين، وازدانت بألق بصماتهم النبيلة، وتجملت بأنوار ابتساماتهم ودفء همساتهم، فلا نكاد نشعر بالسنين -على تعدادها- كيف مرّت ومتى! وهأنذا منذ أن عرفت منكم -قبل بضعة أيام فقط- أنكم ستغادرون سفارة فلسطين الحبيبة وثرى هذه الديار الطاهرة، أراني أتحسس هذه الأيام كم هي ثقيلة بطيئة كما لو أنها تعاند الزمن، أو كما لو أنها تستبطئ الوقت كي نعود للخلف لنستشعر عذوبة ما مضى على نحوٍ أعمق وأشمل وأدق. هكذا إذن يا أبا عبدالله ستغادرون سفارتنا الحبيبة بعد مضي وقت امتد لسنوات، لكنه قصير جدًّا قياسًا بحكم الزمن بما ملأتموه من ألق همتكم وإنجازاتكم ومعالم خطواتكم، لقد أدّيْتم الأمانة خير أداء، لاسيما ما يتصل بالدور المنوط بكم بوصفكم سفيرًا تمثلون حلقة الوصل بين القيادتين الحكيمتين والشعبين العظيمين، هذا الدور الذي رسمتم من خلاله الصورة صافية نقية للعلاقات القائمة والممتدة بين السعودية وفلسطين وعلى وجه الخصوص ما يتصل منها بقضيتنا العادلة وما حظيت به من مساندة وتأييد بدءًا من مآثر جلالة الملك عبدالعزيز؛ طيب الله ثراه، ومرورًا بأبنائه البررة، وحتى يوم الناس هذا في رحاب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وعضده المتين ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، حفظهما الله وأيدهما، فجميعهم زين التاريخ ببصماتٍ عروبيةٍ عز نظيرُها تجاه القضية الفلسطينية محليًّا ودوليًّا، ولطالما تعاظمت وقفاتُكم وأنتم في كل محفل تبرزون المواقف السعودية الأصيلة على مختلف الصعد إعلاميًّا، وسياسيًّا، واجتماعيًّا، فتمنحون كل ذي حقٍّ حقّهُ ولا تأخذكم في ذلك لومةُ لائم. وكذلك أدّيْتم الأمانة خير أداء، بل على نحو تجاوز سقف التوقع بوصفكم حضنًا دافئًا للجالية الفلسطينية المقيمة على هذه الأرض المباركة، وأخص أولئك الذين يراجعون القسم القنصلي لإنهاء معاملاتهم وأنا واحد منهم حيث صادفْتُ أكثر من مرة وجودكم بين المراجعين، تجمعكم بهم الأحاديث الجانبية وأنتم تشرفون بعين رعايتكم على سلامة الخدمات المقدمة لهم. ليس ذلك فحسب، إنما أيضًا صنعتم لأنفسكم مهماتٍ أخرى استثنائية، انطلقت من إنسانيتكم الندية وتواضعكم الجم، وقمتم بها خير قيام؛ إذ لم تتركوا مناسبة فلسطينية إلا وتنثرون فيها همساتٍ عذبةً تزدان بها العيون، ولمساتٍ حانيةً تبتهج بها القلوب، ومشاهدَ مودةٍ تشرئب إليها الأعناق، فَلَكَم ملأتني الغبطةُ وأنا أراكم تشاركون الناس أفراحهم، وتقفون إلى جانبهم وتخففون أوجاعهم في أتراحهم، وَلَكَم كانت لافتةً تلك المشاهد التي غدت ديدنًا يحمل بصمتكم، تلك التي رسمَت السعادة على محياي وأنتم في مناسبات الزواج تقلدون كلَّ عريس بروش قبة الصخرة، وتداعبون طفلًا هنا وطفلة هناك وتقدمون لهم هداياكم المجللة بمعالم التراث الفلسطيني، وفي مناسبات النجاح تقيمون احتفالاتٍ تكريميةً تبهجون بها أفئدة المتفوقين في رحاب سفارتنا التي غدت بيتًا ثانيًا نجد فيه المحبةَ المحاطةَ بالتقدير والاحترام للكبير والصغير كما للمرأة والرجل، الأمر الذي أخذني إلى القصيد فقلتُ، والقول فيكم قليل: طُـوبَـى لِـمَـنْ بِالْوُدِّ هَـزَّ كِيَـانِـي هَـذَا الْـهُمَامُ أَذَابَ لِـي أَشْجَـانِـي بَسَّامُ ذَا النَّبْضِ الْأَصِيلِ تـَحِـيَّـةً تَـرْقَـى إِلَـيْـهِ، مِـدَادُهَـا تَحْـنَـانِـي قَدْ نَالَ وَصْفًـا لِلْوَفِيِّ الْـمُرْتَـجَى أَعْمَـالُهُ كَـمْ أَبْـهَـجَتْ وِجْـدَانِـي لِــلَّـــهِ دَرُّ سُـكُـوتِـهُ وَحَدِيثِهِ بِالْحَقِّ وَالْإِنْصَافِ كَـمْ أَغْـوَانِـي أَوَّاهُ مِــنْ سَـمْتٍ أَصِيلٍ لَافِـتٍ مِنْ هَـمْسِهِ الْأَخَّاذِ كَـمْ أَهْـدَانِـي يَا رَبِّ زِدْهُ تُـقًـى وَزِدْ مِـنْ قُرْبِهِ فَصَدَاقَةُ الـنُّـبَـلَاءِ تَـرْفَـعُ شَـانِـي بَسَّامُ يَـا نَـبْـضَ الْوَفَـا عَبَّقْتَنِـي وَغَـمَـرْتَـنِـي نُورًا أَضَاءَ كِيَـانِـي أقول هذا سفيرنا الغالي ومشاعري تتأرجح بين حسيسِ الفرحِ والحزن؛ فرحٌ إذْ مازلتم موجودين بيننا حتى اللحظة، وحزنٌ يرسم داخلَنا معالمَ غدٍ لا نهنأُ فيه بنورِ طيفِكم، وألقِ إحساسِكم، وعبقِ أنفاسِكم، وكلِّ ما عايشناه فيكم من سَمْتٍ أصيلٍ نُقشت شواهدُه على جدار ذاكرتنا بخيوطٍ من ضياء. سنفتقدكم يا أبا عبدالله، وستفتقدكم مناسباتُنا، وأنا شخصيًّا سأفتقد أنسَكم، ونقاءَكم، وطهرَ كلماتِكم النقيةِ العفيفة التي ما انفكت تبعثُ فينا روحَ الأملِ نحوَ كلِّ ما يجمعُ الكلمةَ، ويوحدُ الصفَّ، ويلُمُّ الشمل. لست أدري يا أبا عبدالله ما عساي أقول، ها هي مفرداتُ خِزانتي تقف عاجزةً عن ترجمة ما تُكِنُّهُ النفسُ من مشاعرِ الفخرِ والاعتزازِ بكم سفيرًا، وصديقًا، وأخًا، نعتز به أيَّما اعتزاز، ولذلك أجدني أهتفُ بصمت أنني لستُ هنا بصددِ وداعِكم؛ إنما بصدد الاحتفاءِ بكم؛ ذلك أنكم ستغادرون السفارةَ والرياضَ وحَسْب، لكنكم -أينما ذهبتم وحيثما حللتم- ستبقَوْن عبقًا يُنعشُ هذا النابضَ خلفَ أضْلُعي، واليقينُ لديَّ أن لقاءَكم لا محالةَ آتٍ بحول اللهِ؛ هنا على ثرى هذه الأرض الطاهرة، وهناك على ثرى فلسطين الحبيبة وقد تم تحريرُها من دنسِ الاحتلال. ألا فامضوا على بركة الله وعين الله ترعاكم، ودمتم سالمين في حِفْظِ اللهِ وعنايته. ** ** - عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين
مشاركة :