صدر مؤخراً نظام «الجمعيات والمؤسسات الأهلية» بعد طول انتظار، ليسد فراغاً تشريعياً ظل قائماً لعقود، ساد خلالها الفقر والتكبيل لمظاهر وتجليات المجتمع المدني في السعودية. ويُحسب صدور النظام الذي بقيت نسخته الأولى المقدمة من مجلس الشورى حبيسة لسنوات في لجان مجلس الوزراء، للديناميكية المتسارعة في مفاصل القرار الرسمي الذي تخفف من البيروقراطية، بعد تأسيس مجلسي الشؤون السياسية والأمنية، والشؤون الاقتصادية والتنمية. وعلى رغم استبشار المخلصين بصدور نظام (قانون) يُرخّص وينظم مؤسسات المجتمع المدني، إلا أنه لم يخرج بالصورة التي كان كثيرون يتطلعون إلى رؤيته عليها. لقد صدر النظام بعد إجراء تعديلات في النسخة الأولى المقدمة من مجلس الشورى، ومن دون العودة إليه، كما تنص قواعد العمل، لإبداء الرأي في مواد ونصوص التباين بين المجلسين: الوزراء والشورى. هذه التعديلات لم تكن شكلية، بل جوهرية، مسّت مفاصل النظام في نسخته الأولى. كما أنها تضمنت عدداً من الإلزامات والقيود التي تتنافى مع فكرة وروح القانون المنتظر لإرساء مجتمع مدني قوي وحيوي يحقق علاقة مشاركة وتكامل مع الدولة. إن الدولة والمجتمع المدني ليسا على طرفي نقيض، أو في حالة تعارض أو تناقض، فالعلاقة بينهما هي علاقة تكامل، هدفها تعزيز مفهوم المواطنة والولاء، وتفعيل المشاركة الاجتماعية ودعم دولة القانون. وعلى رغم أن الصورة النهائية الكاملة للمجتمع المدني هي لذلك الذي ينشأ خارج سيطرة الدولة ونفوذها، إلا أن ذلك هو سقف الطموح الأعلى الذي لا يتلاءم في الوقت الحاضر مع الشروط الواقعية في السواد الأعظم من الدول العربية والإسلامية. بالتالي فإن الممكن والمطلوب في اللحظة الراهنة هو نشوء مؤسسات وجمعيات أهلية تتمتع بالاستقلالية المعقولة أو بحد منخفض من تدخل السلطات التنفيذية. في تصوري الشخصي فإن قيام مجتمع مدني فاعل هو من العوامل الداعمة التي ستساهم في نجاح الرؤية الوطنية 2030 التي تم الإعلان عنها في نيسان (أبريل) الماضي. فالتحول الاقتصادي في اتجاه الخصخصة، وتطوير آفاق الاستثمار، وإعادة الهيكلة، وتقليص الدور الرعوي للدولة، تحتاج إلى مساهمة قوية من مؤسسات المجتمع المدني، كشريك مساند للدولة في التنمية المستدامة. وتحقيق هذه الشراكة هو ابتداءً رهن برؤية الدولة لمؤسسات المجتمع المدني، ومدى ما توفره لهذه المؤسسات من أُطر تكفل لها الحصانة والاستقلالية المعقولة نسبياً، لتقوم بدورها في الرقابة والمشاركة في صنع القرارات والسياسات العامة، وبث ثقافة الشفافية. لقد أعطى النظام الصادر حديثاً وزارة «الشؤون الاجتماعية» صلاحيات واسعة في الترخيص والإشراف على نشاطات هذه المؤسسات، ومراقبتها في شؤونها الإدارية والمالية كافة. بعبارة أخرى، فإنه سيتم احتواء مؤسسات المجتمع المدني المنتظرة، من خلال السلطة التنفيذية، ولن يتحقق لها الحد اللازم من الاستقلالية لإدارة شؤونها. أما النسخة الأولى للنظام المقدمة من مجلس الشورى فقد اقترحت إنشاء «هيئة وطنية للجمعيات والمؤسسات الأهلية» تتمتع بشخصية اعتبارية وموازنة مستقلة للقيام بمهمات الترخيص والتنظيم. ولا شك في أن الفارق واضح بين الحالتين. أظن بأن الخبراء الذين أجروا التعديلات، وأخرجوا النظام في صورته الأخيرة التي صدر عليها، قد استلهموا من روح القانون المصري للجمعيات والمؤسسات الأهلية، المعروف برقم 84 لسنة 2002 الذي منح وزارة الشؤون الاجتماعية سلطة تقديرية واسعة على مؤسسات المجتمع المدني. لكن يبقى أن القانون المصري على رغم ذلك يتمتع بمواد فضفاضة ومرنة، بخلاف نظامنا الوليد. واليوم توجد في مصر أكثر من 16 ألف مؤسسة غير حكومية عاملة في الميدان، بقدر معقول نسبياً من الاستقلالية. كما أن القانون الأردني الخاص بالمؤسسات الأهلية المعروف برقم 33 لسنة 1966 يمنح أيضاً وزارة الشؤون الاجتماعية سلطة واسعة، لكن الحكومة أثناء تطبيقه تتجاوز العديد من نصوصه المقيدة. ففي الأردن اليوم واحد من أكثر المجتمعات المدنية في العالم العربي حراكاً وفاعلية، بعدد يتجاوز الألفي مؤسسة أهلية، في بلد صغير من ناحية المساحة والسكان. وكلا القانونين، سواءً المصري أو الأردني، يسمح للمؤسسات الأجنبية غير الحكومية بالعمل في الداخل مع التزامها الأنظمة المحلية، وهذا ما يمنح المجتمع المدني رافداً غنياً آخر. من جهة أخرى فقد حذف النظام الصادر حديثاً، ما ورد في نسخة مجلس الشورى عن إمكانية إنشاء (الاتحادات)، إذ أبقى على الجمعيات والمؤسسات فقط. ولا أجد تفسيراً لهذا الحذف سوى الرغبة في مزيد من التقييد، فالاتحادات تنبع أهميتها من كونها مظلة نوعية للجمعيات والمؤسسات ذات النشاط المتشابه أو المتقارب، ما يعزز فاعلية وحيوية المجتمع المدني. كذلك فإن من المآخذ المهمة على نظامنا الصادر حديثاً للجمعيات والمؤسسات الأهلية، أنه حذف بعض النشاطات المهمة جداً الواردة في النسخة الأولى المقدمة من مجلس الشورى، التي يمكن أن تنشأ بناءً عليها جمعيات أهلية. والنشاطات المحذوفة هي المتعلقة بـ «حقوق الإنسان» وبتقديم «خدمات إنسانية». وحتى حين صدرت قبل مدة قصيرة اللائحة التنفيذية لهذا النظام فإنها التزمت الصرامة وهي تعدد بالنص أكثر من 30 نشاطاً مسموحاً للمجتمع المدني: من الديني والثقافي والاجتماعي والصحي والبيئي والتقني، إلى التربوي والتعليمي والعلمي والبحثي والإبداعي والسياحي والحرفي، لكن مصطلح النشاط الحقوقي لم يرد مطلقاً. ويصعب حقيقة إن لم يكن مستحيلاً تخيل وجود مجتمع مدني لا يسمح بتأسيس جمعيات ومؤسسات حقوقية. وفي تقديري لا يوجد مسوغ لهذا التقييد غير الحساسية التقليدية في أذهان من اشتغلوا على تنقيح النظام الصادر، لأن ما يتعلق بحقوق الإنسان هو أحد الميادين الرئيسة المهمة التي يتمظهر من خلالها المجتمع المدني. فالمجتمع المدني القوي والزاخر هو وليد الدولة القوية ويسير معها جنباً إلى جنب. بالتالي لا مجال للتخوف من مؤسسات حقوق الإنسان التي يمكن أن تنشأ بناءً على أحكام هذا النظام، لأن الدولة السعودية دولة متماسكة البنيان وقوية، والمجتمع بمختلف أطيافه ملتف حول شرعيتها. والدولة التي هذه حالها تحتاج إلى رؤى ونشاطات أبنائها المخلصين ليكونوا عوناً لها في ترسيخ حقوق الإنسان، ومساعدة من يقع عليه جور أو مظلمة من خلال اللجوء إلى الأنظمة القضائية في الدولة ذاتها. وأكثرنا يعرف الرتابة والضعف والجمود التي تعتري «هيئة حقوق الإنسان» و»الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان»، وهما المؤسستان السعوديتان الوحيدتان المختصتان بحقوق الإنسان والعاملتان في الميدان. فكم من حوادث وقصص تقع في صلب اهتمام هاتين المؤسستين، تناقلتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وكانت حديث المجالس لأيام وأسابيع، لكن المجتمع لم يسمع لهاتين المؤسستين صوتاً أو تعليقاً، فضلاً عن أن تقوما بتقديم المساعدة القانونية والقضائية للضحايا أو المتضررين. يبقى أن نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذي صدر مؤخراً، تميّز عن النسخة القديمة المقدمة من مجلس الشورى، في كونه جعل موافقة وزارة «الشؤون الإسلامية» شرطاً لتأسيس جمعية أو مؤسسة أهلية ذات نشاط ديني. ويبدو ذلك أمراً مهماً للغاية التفت إليه دارسو النظام، في ظل نمو حركات التطرف الديني والإرهاب في العالم أجمع، واستخدامها عباءة الدين في تمرير أجنداتها التدميرية. وما نحن إلا جزء من هذا العالم نكتوي بما يكتوي به. * كاتبة وعضو مجلس الشورى السعودي
مشاركة :