في خضم النار والشرار، على ميادين الحروب والنزاعات، هناك حرب أخرى انبرى لها فئة من الناس، وضعوا أرواحهم على أكفهم من أجل أن يقدموا الحقيقة للناس، بعيداً عما يدعيه طرفا النزاع والحرب، إنهم الصحافيون الذين يقفون في الخطوط الأمامية، سلاحهم قلم وكاميرا، يعملون من خلالها على إيصال الحقيقة وكشف معاناة المظلومين، من جراء نزاعات يكون ضحيتها الأول والأخير الشعب. وفي حين تهدر أصوات البنادق والقذائف، يسعى الصحافي إلى توثيق ما تعجز الكلمات عن وصفه، مقدّمًا للعالم صورا حية عن آلام الشعوب وآمالها، فدوره لا يقتصر على سرد الأحداث، بل يمتد إلى فضح الانتهاكات ونقل صوت المقهورين إلى منابر العالم، ليكون شاهدا على التاريخ، وأداة للتغيير. ففي مواجهة المخاطر، يتحمل الصحافي مسؤولية أخلاقية عظيمة، لأنه مرآة للواقع وصوت للعدالة، يحارب الظلم بالإصرار على الحقيقة، ويجعل من كلمته وصورته سلاحا أقوى من أي سلاح، يخوض ميادين الصراعات والحروب، راصدا المآسي والأحزان التي تخلفها، وموثقا مظاهر التشتت والتشريد والتجويع، والأمراض والأوبئة التي تنتشر مع رائحة الموت هنا وهناك. وفي حين يتابع العالم أحداث الحروب أمام شاشات التلفزيون، وعبر الهواتف المحمولة، ويستمعون إلى رسائل المراسلين من أرض المعركة، يجهد أولئك المراسلون لأداء أعمالهم، واضعين أرواحهم على أكفهم، وهي حالة قد لا يشعر بها من يستمع إليهم، أو يراهم ينقلون الحدث على شاشات التلفزيون، والقذائف والصواريخ تتطاير من فوق رؤوسهم وتقع حولهم. الصحافي الميداني، أو المراسل الصحافي، يؤدي أعماله ويضحي بحياته ويبتعد عن أسرته وحياته من أجل أن يؤدي رسالته الإعلامية التي قد يكون ثمنها عمره كله، لينقل الصورة بكل أبعادها للمشاهد الذي يبعد عنه آلاف الأميال، فيتابع عبر التلفزيون التغطيات الإخبارية الميدانية، والصور الحية والمقاطع، وقد لا يبدر لذهنه أن كل هذا وراءه جنود أبطال، صحافيون في ساحات الحرب، يعيشون الحدث من وسطه، لينقلوا لنا الأحداث أولاً بأول ولحظة بلحظة. يظلون ساعات وربما أياما منهكين من العمل والتعب والإرهاق، من دون تناول الطعام ولا راحة كافية، تعينهم على استكمال مهمتهم... يرصدون مشاهد الحروب والتخريب والدمار، ويرون جثث الضحايا، بل ربما يرصدون لحظات الموت لأولئك الضحايا... ويواكبون قوافل النازحين، وهم يجرون المأساة مع ما استطاعوا حمله من أمتعة بيوتهم. إن مهمة الصحافي الميداني، في ساحات الحروب، ومواقع العمليات العسكرية، كبيرة وجليلة، وهنا تبرز إنسانيته في نقل الصورة الحقيقية دون تحيز أو تشويه، وهو في كل هذا أمام مسؤولية مهنية وأخلاقية، بحيث يجب أن يتجردوا من أي انحياز، أو أن يستغلوا ثقة الناس بهم، والتلاعب بمشاعر وعواطف المتابعين، فلا تحيّز ولا تحريف، ولا زج بالمصطلحات ذات الإيحاءات والأبعاد التي تصب في هذا الاتجاه أو ذاك، ولا يقوم بترويج صور يرمي من ورائها الإيحاء لأي شيء غير مقبول، بل يحرص على نقل الحقيقة حتى لو كانت ضد رأي الشارع، بعيدا عن أجندات سياسية وحزبية، لأن الواجب المهني يحتم عليه أن يبين الحقائق ويوضح ماذا يحدث أمام الرأي العام والمجتمع الدولي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه من الطبيعي أن يكون للصحافي الميداني تحليلاته وتغطياته النابعة من قناعاته ومبادئه، لكنها يجب أن تبقى ضمن إطار رسالته الإعلامية الهادفة، فلا يبالغ بالعناوين المبهرة والمثيرة، وأن يكون متوازنا في طرحه ومحايدا وناقلا للحقيقة الكاملة، والعمل بموضوعية، ويجب أن يتنبه إلى مسألة في غاية الخطورة، تتعلق بالمصداقية، بألا يسعى لتحقيق «سبق صحافي» يبتغي فيه الشهرة، على حساب المهنية والأخلاق الصحافية، لأنه في الصفوف الأولى، ويحمل مسؤولية أخلاقية، وأمانة مهنية، تجبره على أن يعمل بنزاهة وضمير حي، فلا يبالغ بالوصف والإثارة بعيدا عن الواقع الفعلي، وينتصر للحق والمبدأ قبل كل شيء. ومن بدهيات العمل الصحافي، في ميادين القتال، أمام ما قد يتعرض لها الصحافي من هزات نفسية نتيجة ما يراه من دمار وقتل أن يتعاون الزملاء الصحافيون، ويقدموا لبعضهم الدعم النفسي والاجتماعي والعاطفي، إضافة لتقديمهم الدعم العاطفي للجرحى وأهالي الضحايا والشهداء والنازحين. وتبقى السلامة الصحية والوقاية والحماية الجسدية لصحافيي الحروب، من أكثر القضايا التي تشغل الوسط الإعلامي، نظراً لما شهدته الحروب والعمليات العسكرية في السنوات الأخيرة، من تسجيل مقتل أعداد كبيرة من الصحافيين، في أرض المعركة، وهو ما يحتم على صانعي القرار العمل على تأمين الحماية الكاملة للصحافيين، وإجبار أطراف النزاعات على عدم استهداف من ينقلون وقائع الحروب للرأي العام العالمي، مع التشديد على ضرورة تزويدهم بمستلزمات الإسعافات الأولية ولبس الستر الواقية والخوذ. كما أن بقاء الصحافيين كثيراً في ميادين القتال والحروب، ومعاينة الكوارث ومشاهد الدمار والقصف والتشريد والنزوح، وجثث الضحايا، وبكاء الأمهات ووجوه الأطفال، كلها ستخلف آثارا نفسية على الصحافي، وتشكل له حالة من عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي والاضطراب في النوم، وهي حالة تستمر مع الصحافيين حتى بعد عودتهم وانتهاء مهامهم المهنية وتغطياتهم الميدانية، وقد تمتد أوضاعهم النفسية لسنوات طويلة أو مدى الحياة، وهي ضريبة يدفعها الصحافي من جراء ما يقوم به من عمل. ولا شك أننا لولا هؤلاء الصحافيون لما كنا عرفنا ما يدور في ميادين المعارك والحروب من واقع، فهم يقومون برصد وتوثيق الجرائم والانتهاكات ضد الإنسانية، والتعاطي مع تفاصيل اللحظة والأنباء المتواترة في مناطق الصراعات والأزمات والحروب والنزاعات، والاشتباكات في مناطق متفرقة في العالم، وهو ما يفرض على الدول والمنظمات الدولية والإنسانية المعنية تكريمهم والحرص على سلامتهم، والعمل على دعمهم نفسيا ومعنويا بعد العودة من ميادين القتال، ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية والمهنية.
مشاركة :