اختار وزراء من أصحاب السوابق ليضمن ولاءهم عاد «ترامب» لينتقم. تراكمت فى صدره أوجاع سوداء أصابته وهو فى البيت الأبيض وأصابته وهو خارجه. حاولوا إقالته من الرئاسة مرتين. وحاولوا أن يقضى ما تبقى من حياته فى السجن متهما بستين جناية شخصية وسياسية ومالية. بل حاولوا اغتياله ثلاث مرات. سعوا جاهدين للتخلص منه حتى لا يعود إلى الرئاسة مرة أخرى. ضمير الغائب هنا يعود إلى المؤسسات البيروقراطية التقليدية التى تحكم الولايات المتحدة والتى يطلق عليها «الدولة العميقة». لكن «ترامب» عاد إلى الرئاسة بأصوات حاسمة كاسحة فاجأ الجميع بالحصول عليها. فى الوقت نفسه حصد حزبه الجمهورى مقاعد الأغلبية فى مجلس الشيوخ مما يعنى أن «ترامب» جاء مسلحا بقوة السلطتين التنفيذية والتشريعية معا ولن ترفض قراراته أو ترشيحاته فى الكونجرس. بتلك القوة الاستثنائية قرر «ترامب» الانتقام. بدت الحكومة الجديدة التى يشكلها وكأنها حكومة حرب. لكنها حرب ليست ضد الصين أو روسيا أو إيران وإنما ضد الولايات المتحدة. ما يحدث هناك يلخصه الجميع بكلمة واحدة «صدمة» أو «كارثة» أو «زلزال». على شبكة «سى. إن. إن» الإخبارية الأمريكية الشهيرة قال «مايك جونسون» رئيس مجلس النواب الذى احتفظ بمنصبه بعد تأييد «ترامب»: ــ يجب أن نشكل فريقًا يقوم بهز النظام من الداخل. وعلى شبكة «الحرة» أضاف: ــ التغيير القادم صادم. وعلى موقع «إكس» كتب «ترامب» الابن: ــ نحن هذه المرة أكثر خبرة من المرة السابقة. فى الرئاسة السابقة استعان ترامب بسياسيين من النظام الذين وصفوه بالفساد فنجحوا فى خنقه ولكنه هذه المرة اختار شخصيات معادية للنظام. على منصة «إكس» أضاف «بارون» ابن «ترامب» الأصغر: ــ يجب أن نحيط والدى بمجموعة من الأوفياء. فات زمن أن نأتى بشخصيات غير منتخبة يصفهم أبى برموز الدولة العميقة. بدا أن «ترامب» يختار حكومته من خارج النظام بل يكرهون النظام وفى الوقت نفسه يدينون بالولاء له وحده. جاءت اختيارات «ترامب» مثيرة للجدل. كتب «بيتر بيكر» كبير مراسلى البيت الأبيض فى صحيفة «نيويورك تايمز»: ــ إن ترامب باختياراته يريد الانقلاب على المؤسسات الأمريكية. وكتب «ديفيد إجناسيوس» فى صحيفة «واشنطن بوست»: ــ إن الشعب الأمريكى أعطى فوزًا كبيرًا لترامب ولكنه لم يعطه وسائل تدمير المؤسسات المهمة فى البلاد. لكن هل ستتركه هذه المؤسسات يفعل بها ما يشاء دون أن تتحد فى مواجهته للتخلص منه؟ هل سترفع الراية البيضاء أم أنها ستؤجر من يتخلص منه حفاظا على سطوتها ومصالحها التى لا يستهان بها؟ بدأت الترشيحات بمنصب المدعى العام. اختار النائب عن ولاية فلوريدا «مات جينز» للمنصب الذى يشغله «الفين براج» الذى وجه إلى ترامب اتهامات تودى به إلى السجن مدى الحياة. قطعا سيقدم «ألفين براج» استقالته قبل أن يحلف ترامب اليمين وسيحذو حذوه «جاك سميث» المستشار الخاص الذى رفع دعوى قضائية ضد ترامب تتهمه بالاحتفاظ بوثائق سرية بشكل غير قانونى. لكن «مات جينز» أثار الجدل بعد أن فتحت ملفاته ونشرت اتهامات نسبت إليه منها تعاطى المخدرات ومنها الاتجار بالجنس واغتصاب القاصرات ومنها قبول هدايا غير مسموح بها. غضب الجمهوريون فى مجلس النواب من اختياره واتهمه اليهود بأنه وثيق الصلة بالجماعات التى تنكر المحرقة أو الهولوكوست. وسيطر القلق على ١١٥ ألف موظف تابعين له بعد أن أعلن أنهم لا يستحقون رواتبهم. وقبل أن يفيق الأمريكيون من صدمة «مات جينز» تلقوا صدمة «بيت هيجيسيت» مرشحا لوزارة الدفاع التى يتبعها مليون و٤٠٠ ألف ضابط وجندى. كان «بيت هيجيسيت» مذيعا فى قناة «فوكس نيوز» وكل خبرته فى الشئون العسكرية أنه خدم وهو ضابط صغير فى جوانتانامو والعراق وأفغانستان وألف كتابا بعنوان «الحرب على المحاربين» كشف فيه عن معاناة الجنود فى الحروب التى تتورط فيها الولايات المتحدة. لكن ترامب يريد الاستفادة من ضعف خبرته فى تنفيذ فكرة «مجلس المحاربين» الذى يتكون من قدماء العسكريين الذين سيمنحهم ترامب سلطة إقالة جنرالات الجيش الذين يغضب عليهم أو الذين لا يدينون له بالولاء. كيف سيواجه ترامب هذه المؤسسة القوية المنظمة المنضبطة؟ هل ستستسلم له أم ستسعى إلى توريطه فى أمور تضعف منه؟ وعلى منصة إكس أكد بارون أن والده اختار روبرت كيندى جونيور لوزارة الصحة. اختار شخصا ضد وزارة الصحة وضد شركات الأغذية والأدوية. يعتبر اللقاحات نوعا من الاحتيال وطالب بإلغاء قسم التغذية التابعة لإدارة الغذاء والدواء وحذر موظفى الوزارة بالتسريح فى قطاع صحى يصل إلى ١٦مليون شخص. أكثر من ذلك سيعيد النظر فى نظام «الميد كير» للرعاية الصحية الذى يستفيد منه ٧٢ مليون مواطن أمريكى محدود الدخل. باختصار سيحرض «روبرت كيندي» الصغير نحو ٨٨ مليون مواطن ضد ترامب فهل سيتحمل إضافتهم إلى خصومه وأعدائه؟ ولا تتوقف الجبهات التى يفتحها ترامب ضد مؤسسات تقليدية مسيطرة على الولايات المتحدة منذ عقود وعقود. إن الاستخبارات الوطنية قوة لا يستهان بها. قوة يحسب لها الرئيس ألف حساب. قوة تساهم فى صناعة القرار بما تقدم من معلومات. والأهم أنها الفلتر الذى ينقى الشخصيات المرشحة لتولى المناصب العليا الحساسة. لكن رغم هذه الأهمية فإن ترامب اختار للمنصب «تولسى جايارد» التى تعرف الرئيس الروسى «بوتين» عن قرب. لكن ليست المشكلة فى أنها تعرف بوتين ولكن المشكلة أن معرفتها به أثرت فى رؤيتها للحرب فى أوكرانيا. فى نهاية فبراير ٢٠٢٢ كتبت فى حسابها على منصة إكس: «كان من الممكن تجنب هذه الحرب بسهولة لو أن الرئيس بايدن اعترف بالمخاوف الأمنية المشروعة لروسيا. ووجهت اللوم إلى حلف الناتو للسبب نفسه. وفى ١٦ أغسطس ٢٠٢٠ قالت: ــ إن عقوبات بايدن على روسيا فشلت والسبب أن عائدات الطاقة الروسية أصبحت أعلى مما كانت عليه قبل غزو أوكرانيا. ورفضت أن يتحمل الشعب الأمريكى العبء الضريبى لدعم أوكرانيا ولكنها لم تذكر العبء الذى يتحمله لدعم إسرائيل. ويتكرر السؤال: هل سيحتمل مجتمع الاستخبارات مديرا بهذه الشخصية؟ هل سينضم إلى خصوم ترامب فى حرب لا مفر منها؟ هل سينضم مجتمع الاستخبارات إلى أفراد المؤسسة العسكرية وموظفى وزارات العدل والصحة فى مواجهة ترامب؟ والسؤال الأهم: هل اكتفى ترامب بهم أم أضاف إليهم أعداء آخرين؟ لم يكتف ترامب بهم. أضاف إليهم مجتمع المثليين الذين أعلن أنه ضدهم. هناك بالقطع جماعات محافظة تشكل نسبة مؤثرة فى المجتمع ضد المثليين ولكن المشكلة أن المثليين حصلوا على حقوق قانونية يصعب التراجع عنها كما أن كثيرًا من التنظيمات والمؤسسات تساندهم مثل هوليوود والجمعيات الأهلية وتيارات سياسية ليبرالية. لن يسكت هؤلاء إذا ما شن الحرب عليهم. سينضمون إلى باقى خصوم ترامب وسيقفون مع باقى أعدائه. وسينضم إليهم فى مواجهة ترامب أنصار البيئة وأحزاب الخضر والمؤمنون بتغير المناخ الذى يعتبره ترامب خدعة لم تنطل عليه وجعلته ينسحب من اتفاقية باريس فى ولايته الأولى. وحسب ما تعهد به ترامب فإنه سيأمر قوات إنفاذ القانون بترحيل ما بين ١٠ و٢٠ مليون لاجئ مهاجر غير شرعى. رقم ضخم جدا. رقم سيؤثر فى اقتصادات البلاد. السبب أن هؤلاء البشر يعملون فى وظائف دنيا بأحور زهيدة مثل النظافة والبستنة والسباكة والحراسة ورعاية الأطفال والكلاب. وسيعنى ترحيلهم فراغًا فى مئات الوظائف البسيطة والحيوية ولو وجدت من يشغلها فإنه سيتقاضى أضعاف أضعاف ما كان يتقاضاه المهاجرون غير الشرعيين مما يؤثر على تكاليف المعيشة. يضاف إلى ذلك أن ترحيلهم لن يكون سهلا. لنتخيل كيف سيقبضون على عشرة أو عشرين مليونا؟ وكيف سيحملونهم إلى خارج الحدود؟ وهل سيسكت كل هؤلاء؟ هل سيقبلون بترحيلهم طواعية دون غضب أو مقاومة أو إثارة الشغب أو تحطيم وتخريب كل ما يصلون إليه؟ لقد سبق أن عالجت الدول الأوروبية هذه المشكلة بتوفيق أوضاع المهاجرين غير الشرعيين ثم قيدت منح تأشيرات الدخول. لكن المشكلة أن ترحيل غير الشرعيين كان أهم وعد انتخابى يقطعه ترامب على نفسه فكيف سيتراجع عنه؟ لقد انتقد ترامب الهجرة غير الشرعية قائلا: ــ إنها حولت أمريكا إلى سلة مهملات العالم. وألمح إلى استخدام الجيش فى الترحيل الجماعى لغير المقيمين إقامة قانونية. ولكن لا أحد مهما سرح خياله سيصدق أن ترامب سيقدر على ترحيل كل هذه الملايين مرة واحدة. لا أحد مهما كان متفائلا يتصور أن القوة ستلقى بهم خارج الحدود وهم مبتسمون مستسلمون. قطعا سيكون رد فعلهم حادًا. وسيكون ذلك عبئا على ترامب فى الحرب التى يشنها على الجميع. إن من حق ترامب أن يختار من يشاء ليكونوا مسئولين فى حكومته. ومن حقه أن ينتقم من الذين أساءوا إليه ودفعوا به إلى القضاء ليبدو السجن قريبا منه. لكن مشكلة ترامب أنه فتح جبهات كثيرة عديدة ضده فى وقت واحد. تصور أنه بالحرب على الدولة العميقة سيغير النظام السياسى الأمريكى. لكن السؤال هو: هل حشد أسلحة مناسبة ليكسب الحرب ضد كل هذه المؤسسات البيروقراطية العميقة المدربة على البقاء مهما تغيرت الظروف؟ سؤال صعب. لا أحد يقدر على الإجابة عنه. أما السؤال السهل فهو: ترى من سيدفع ثمن هذه الحرب؟ والإجابة: الولايات المتحدة نفسها.
مشاركة :