في عام 2005 تفوقت زعيمة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني الوسطي، أنغيلا ميركل، على جميع منافسيها الذكور الأكثر صخباً، لتصبح أول مستشارة في ألمانيا. وأشرفت ميركل على الرخاء الاقتصادي الوطني، وشاركت في قيادة الاستجابة الدولية للأزمة المصرفية العالمية بين عامَي 2007 و2009، وقادت اليونان بمفردها تقريباً عبر أزمة الديون في عام 2010. وفتحت حدود ألمانيا للاجئين أثناء الحرب الأهلية السورية، كما عملت وسيطاً بين الغرب وروسيا بعدما استعاد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، شبه جزيرة القرم في عام 2014، ويعرفها العالم بأنها الزعيمة غير الرسمية لأوروبا وأقوى امرأة في العالم. الشجاعة تقول ميركل في مذكراتها بعنوان «الحرية»، التي تتجاوز صفحاتها الـ700 صفحة: «في عام 1989 عندما سقط جدار برلين، انخرطت على الفور في السياسة وبدأت القيام بالعديد من الأمور، ولم يكن لدي أي وقت على الإطلاق للتفكير في حياتي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية». وتضيف: «كان عليّ أن أفكر في نوع الشخص الذي كنت عليه أثناء الدكتاتورية، وماذا قدم لي والداي، وماذا تعلمت، لم أكن من الأشخاص الشجعان للغاية، مثل الناشطين الذين واجهوا الدولة بشكل مباشر، لكنني لم أكن أيضاً من أولئك الذين كانوا يتبعون دائماً خط الدولة الاشتراكية، وتقييمي لهذا الموقف مرة أخرى كان أمراً مثيراً حقاً للاهتمام». مراحل مبكرة بعد ستة أسابيع من ولادة أنغيلا في هامبورغ عام 1954، انتقلت الأسرة إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وهي دولة لم يتجاوز عمرها خمس سنوات، حيث تم تعيين والدها، وهو قس بروتستانتي، في كنيسة في كويتزو، وبعد ثلاث سنوات تم تعيينه مسؤولاً عن مدرسة دينية ريفية في تيمبلين على بعد 50 ميلاً إلى الشمال من برلين، حيث عاشت أنغيلا هناك حتى غادرت إلى الجامعة في لايبزيغ. وكان وضعها كابنة قس في دولة شيوعية يدعو إلى الشك، ومنذ سنّ مبكرة تعلمت من والديها ممارسة التقدير والحذر. وتتذكر قائلة: «كانت الحياة في ألمانيا الشرقية على حافة الهاوية باستمرار، فقد تستيقظ في الصباح من دون أي همّ في العالم، لكن إذا تجاوزت حدوداً سياسية معينة فقد يتغير كل شيء في ثوانٍ، ما يعرّض وجودك بالكامل للخطر». جدار برلين عندما تم تشييد جدار برلين عام 1961، تغيرت الحياة الأسرية بين عشية وضحاها بشكل كبير، ولم تعد هناك زيارات متبادلة بين الأسر في الجزءين الشرقي والغربي، وحتى المحادثات الهاتفية مع أصدقاء المدرسة كان لابد من إجرائها بعناية على افتراض أن أفراد الأمن في ألمانيا الشرقية كانوا يستمعون، كان عليها أن تتعلم اللغة الروسية، لكنها تقدمت بطلب لدراسة الفيزياء في الجامعة «لأنها كانت علماً، وحتى جمهورية ألمانيا الديمقراطية لم يكن بإمكانها تحريف الحقائق العلمية»، وتضيف ميركل: «(2+2) كان لايزال (4)، وهذا يعني أنني أستطيع التحدث عن كل الأشياء الجديدة التي كنت أتعلمها من دون الحاجة إلى الرقابة على نفسي». وبعد التخرج في عام 1978، انضمت ميركل إلى قسم الكيمياء الكمومية بأكاديمية العلوم في برلين الشرقية، حيث حصلت على درجة الدكتوراه، وكانت لاتزال تعمل هناك عندما سقط الجدار في عام 1989. وبحلول نهاية ذلك العام انضمت إلى حزب صغير جديد (الصحوة الديمقراطية)، وانتُخبت متحدثة باسم الفرع وأصبحت سياسية بدوام كامل بعد أسابيع فقط من تعيينها متحدثة باسم الحزب على المستوى الوطني. وفي غضون أشهر، اندمج الحزب مع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي كان يقود فرعه الغربي المستشار آنذاك هلموت كول، وفي يناير 1991 بعد إعادة توحيد ألمانيا، عيّنها وزيرة للمرأة والشباب في حكومة جمهورية ألمانيا الاتحادية الجديدة، حيث خدمت حتى فقد حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي السلطة في عام 1998. الحذر والحيطة العديد من الصفات التي ساعدت ميركل على نحو جيد في السياسة يمكن إرجاعها إلى الحياة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وأكثرها وضوحاً الحذر والحيطة، ففي العشرينات من عمرها، عندما حاول جهاز الأمن في ألمانيا الشرقية تجنيدها كمخبرة، اتبعت نصيحة والدتها وأخبرتهم بأنها غير حكيمة إلى الحد الذي يجعلها غير مؤهلة للعمل كجاسوسة، وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة، ولعل عدم ثقتها بالتطرف، وإيمانها بالتوجيه في مسار وسطي، وإيمانها بقدرة البشرية على التكامل والتوحد، كلها ربما ترجع إلى النصف الأول من حياتها. اكتشفت ميركل، في ما بعد، أن تعلمها للغة الروسية في طفولتها أمر مفيدة في علاقتها العملية مع بوتين، وإن كان هذا لم يمنعه من إحضار كلبه الأسود من فصيلة «لابرادور» إلى اجتماعهما في سوتشي عام 2007، وكان يعلم تمام العلم أنها تخاف حتى الموت من الكلاب، وكتبت: «كان بوسعي أن أدرك من تعابير وجه بوتين أنه كان يستمتع بالموقف»، لكن ميركل ضغطت على أسنانها ولم تقل شيئاً، وتابعت: «بدلاً من ذلك التزمت رباطة الجأش، كما فعلت في كثير من الأحيان طوال حياتي بالمبدأ البريطاني المرتبط بالعائلة المالكة: لا تشرح أبداً، لا تشكُ أبداً». من الصعب ألا نشعر بأن عصر السياسة المتواضعة التي انتهجتها ميركل قد انتهى الآن أيضاً، فقد ولدت في ظل ذكريات ألمانيا النازية، وكانت دائماً تحتقر أي تلميح عن الديماغوغية، بل وكانت حذرة حتى من الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما، في البداية. ذكرياتها مع ترامب وتقتصر أفكار ميركل حول الولاية الأولى للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على بضع صفحات فقط من كتابها، حيث كشفت أنها وبّخت نفسها لأنها دفعته إلى مصافحتها أمام الكاميرات عندما التقيا في عام 2017، وأدركت بعد فوات الأوان أن وقاحته كانت متعمدة، وكتبت: «لقد أراد أن يخلق مادة للحديث من خلال سلوكه، كما لو كنت أجري مناقشة مع شخص طبيعي تماماً»، وعندما خلصت من زيارتها لواشنطن علّقت بقولها: «لا يمكن أن يكون هناك عمل تعاوني من أجل عالم مترابط مع ترامب»، لكنها وافقته الرأي في قضية واحدة، وأضافت: «كانت هناك نقطة يجب أن أقبلها، لقد ذكر أن إنفاقنا على الدفاع لم يكن كافياً»، كانت ميركل نفسها تدافع عن هذا، لكنها فشلت في إقناع شركاء حلف شمال الأطلسي (الناتو). وبعد يومين من التصويت في الانتخابات الرئاسية الأميركية، لم يُفاجأ أحد بقولها «أتمنى من كل قلبي أن تهزم كامالا هاريس (المرشحة الديمقراطية) منافسها»، لكن بعد فوز ترامب قالت: نتيجة الانتخابات كانت واضحة، وهذه هي الديمقراطية. عن «التايمز» بداية النهاية جاءت بداية نهاية الانحدار السياسي لأنغيلا ميركل، في أغسطس 2015، مع أزمة اللاجئين السوريين، ولدهشة العالم تخلت المستشارة الألمانية عن استطلاعات الرأي العام التي ظلت تسترشد بها طيلة حياتها السياسية، وتخلت عن استشارة الحلفاء للوصول إلى إجماع قبل الإعلان عن أي سياسة في هذا الشأن، وفتحت حدود ألمانيا أمام مليون لاجئ من الشرق الأوسط، وابتهج المؤيدون في جميع أنحاء العالم، واستقبل الآلاف من الألمان اللاجئين في محطات السكك الحديدية، وأطلقت مجلة «تايم» عليها لقب شخصية العام، لكن آخرين شعروا بالحيرة، وسرعان ما تدهور الحماس العام، ويقال إن وزير الخارجية الأميركية الراحل، هنري كيسنجر، حذرها قائلاً: «السماح لمليون غريب بالدخول يعني تعريض الحضارة الألمانية للخطر»، فأجابت: «لم يكن لدي خيار آخر». الحياة الخاصة زوج أنغيلا ميركل الثاني اسمه يواكيم ساور، أستاذ كيمياء كمومية، وقد التقيا عندما كانت في الـ30 من عمرها، وتزوجا عام 1998 في حفل خاص لم يحضره أي من الضيوف، وتنقل إحدى السير الذاتية عن ميركل قولها في عام 1990: «إن إنجاب طفل يتطلب مني التخلي عن السياسة»، ولم تفعل ذلك قط، وعندما سألتها الصحافة عن هذا الاختيار، قالت: «هكذا حدث الأمر، وأنا سعيدة بذلك وراضية». لايزال الزوجان يعيشان حتى يومنا هذا في شقتهما المؤجرة المتواضعة في برلين الشرقية، وعندما كانت مستشارة كانا يذهبان في عطلات نهاية الأسبوع إلى كوخ صغير عادي في الريف في أوكرمارك، وصفه أحد الأصدقاء ذات مرة بأنه «غير مكتمل» وتم بناؤه قبل سقوط الجدار.. ميركل تحب التسوق وتذهب لشراء البقالة بنفسها، وحتى مظهرها المميز (البنطلون والسترة) لم يأت إلا مصادفة عندما كُسرت ساقها في وقت مبكر من حياتها السياسية، ولم تتمكن من التحرك على العكازات وهي ترتدي فستاناً. أي شخص يأمل في معرفة كل شيء عن حياة ميركل الخاصة من مذكراتها سيشعر بخيبة أمل، كل ما كتبته عن زوجها الأول أنها ذات صباح بعد ثلاث سنوات من الزواج غادرت شقتهما بحقيبة في يديها، وفي العام التالي انفصلا.. زوجها الثاني شديد الخصوصية مثلها، وفي الواقع أطلقت عليه الصحافة الألمانية لقب «شبح الأوبرا»، بسبب حبه للأوبرا وكراهيته للدعاية، وحضر حفلات تنصيبها مستشارةً في عام 2005. . العديد من الصفات التي ساعدت ميركل على نحو جيد في السياسة، يمكن إرجاعها إلى الحياة في ألمانيا، وأكثرها وضوحاً الحذر والحيطة. تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news Share فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :