تتسلل خيوط الشمس من نافذة السجن لتداعب عيون الأمير الشاعر فتوقظه من نومه، لكنها تعيد له همومه التي يريد أن ينساها ، يصحو فلا يرى إلا وحدة الحبس التي تكاد تقتله، فتجول في نفسه الخواطر وتتلاعب في ذهنه الأفكار ، ويتساءل مع نفسه المكلومة ، لماذا تركني ابن عمي الأمير سيف الدولة في سجون الروم، لماذا لا يفتديني وأنا الذي رهنت عمري وحياتي في سبيل طاعته.. أمن بعد بذل النفس فيما تريده أثاب بمر العتب حين أثاب وتأخذه الأفكار بعيداً وتطير به نحو حلب ، ولكن جدران القلعة وحراسها الأشداء تمنع تلك الأفكار من الوصول إلى ذهن سيف الدولة ، هنا يبحث أبو فراس عن المنطق وعن قانون العدالة ، ويرسل أفكاره عبر نافذة السجن إلى حلب، لقد اطعتك أيها الأمير وخدمتك وكنت الجندي الذي لا يعصى لك أمراً ، فلم لا تفتديني من الروم ؟ اليس المنطق يقول هكذا ! وبعد أن تتسلل شباك اليأس إلى صدره وتلقى القبض على بقايا الأمل الذي يكتنزه في صدره يتأمل نافذة السجن ، فيرى من خلف قضبانه حمامة تتأمل وضعه الحزين .. فيتأملها وكأن بعينيها دمع البكاء ، فتجود قريحته بهذه الأبيات : أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا هل تشعرين بحالي معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببال أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي أيضحك مأسور وتبكي طليقة ويسكت محزون ويندب سال لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعي في الحوادث غال وحول البيت الأخير ( ولكن دمعي في الحوادث غال)، هذا السياق يتكرر كثيراً في شعر أبي فراس ويعكس مدى انتمائه لبيت الحكم الحمداني ، ولذا نجده يقول في موضع آخر : إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر هذه الذهنية الملكية كانت تفرض على سلوك أبي فراس مجموعة من القيم والمبادئ التي تتأطر في عقله كأديولوجيا صارمة لا يمكن العدول عنها، فمثلاً كان يأبى أن يجازى على شعره أو أن يحصل على مقابل، فأديولوجيته الملكية ترى أن الشعر إحساس راق ونبيل لا ينبغي أن يحصل قائله على مكافأة وإلا تحول الشعر إلى مهنة من المهن لا تختلف عن النجارة أو الحدادة أو غيرها، هذه الأديولوجية الملكية كانت تتضاد مع الأديولوجيا الشعبية التي كان يتزعمها ملك القوافي في ذلك الزمان وأعني أبو الطيب المتنبي، والذي لولا عطايا المال لما كنا سمعنا بشاعر اسمه المتنبي ، فتناقض الأديولوجيا عند الشاعرين الكبيرين انعكس بصورة صاخبة تجاه علاقة متوترة بين الطرفين ، وهذه الأديولوجيا المتناقضة انعكست أيضاً على أنصارهما في مجلس الحكم ، كدفاعات إبن جني عن المتنبي ودفاعات إبن خالويه عن أبي فراس !!. تطلق الروميات على القصائد التي أنشدها أبو فراس في أسره عند الروم ، ويقال في كتب التاريخ أنه أسر مرتين أثناء قتاله مع الروم، افتداه سيف الدولة في المرة الأولى بسرعة ولكنه تأخر عليه كثيراً في المرة الثانية ولأسباب عديدة اختلف فيها المؤرخون كثيراً حول تلك المرحلة التاريخية المهمة في التاريخ الإسلامي !!. لا شك عندي أن الروميات هي أجمل شعر أبي فراس وأروعه ، وللأمانة فقد ظلم هذا الشاعر الكبير كثيراً ولعل السبب الأساسي أن شمس المتنبي كانت تحجب كثيراً نور كوكبه الجميل، بل أن قصائده وأشعاره كادت أن تذهب في غياهب النسيان لولا أن أستاذه أبن خالويه هو الذي اعتنى بجمع ديوانه بعد موت أبي فراس ومقتله وهو في ريعان شبابه، وعندما وصلت قصائده إلى الصاحب بن عباد قال مقولته الشهيرة : بدئ الشعر بملك ويقصد امرئ القيس وانتهى بملك ويقصد أبا فراس الحمداني !!. يتميز شعر أبي فراس بنفس الملوك والأمراء في شعره، وهذا النفس يأخذ طبيعة الواقع فليس به تلك إلا صور المستحيلة والتي تعوض النقص كما هو عند المتنبي الذي يقول : أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي.. وأسمعت كلماتي من به صمم إلى غير ذلك من أبياته التي تستجمع المستحيل عند استدعاء الفخر ومدح الذات ، فهذه المعاني لا نجدها أبداً عند أبي فراس ، بل نجد الثقة التي تمنح الحمداني فخراً يتطابق مع حيثيات الواقع ، وهذا شيء طبيعي كون المتنبي عاش حياة الترحال يبحث عن الجاه الذي ولد أبو فراس في أحضانه ، وهذا النفس الملوكي نجده مثلاً في دموع الكبرياء التي تحدثنا عنها في مقدمة المقال ، وهذا النفس نجده في الوفاء الذي حوله العشق إلى مذلة : وفيت وفي بعض الوفاء مذلة لفاتنة في الحي ، شيمتها الغدر وبما أن الشيء بالشيء يذكر، وحول النقد الثقافي الذي صك مصطلحه الناقد الأمريكي الشهير فنسنت ليتش كرديف لمصطلحي ما بعد الحداثة وما بعد البنوية ، فقد قدمت هذه الدراسات إضاءات رائعة في فضاء النقد الأدبي لكنها من جهة أخرى أساءت كثيراً للثقافة العربية كونها ترتكز على إظهار العيوب الثقافية وإبرازها بيد أن الإسراف في التفسير يخرجها عن سياقها الحقيقي والواقعي ، ففي الدراسة التي قدمها الباحث أمل طاهر محمد نصير بعنوان ( في جماليات التحليل الثقافي ، روميات أبي فراس الحمداني ) نجد أن الباحث وفي معرض دراسته عن الانساق الثقافية لقصيدة أراك عصي الدمع قد حمل الموضوع أكثر مما يحتمل عندما اعتبر أن المرأة التي أرمزها أبو فراس في بداية قصيدة ( أراك عصي الدمع ) يقصد بها الأمير سيف الدولة، وقد اعتبر أن هذا النسق الثقافي ما هو إلا معادل للتقليل من شأن الأمير عندما أسقط عليه صفة الأنوثة وهذه – من وجهة نظر الباحث - نسقية ثقافية عربية عندما تستعلي الذكورة وتخفض الأنوثة في التراتب الاجتماعي ، ومن هنا كان إسقاط صفات الأنوثة في مقدمة القصيدة بعيوبها للتقليل من شأن الأمير سيف الدولة ، باعتبار أن اسقاط صفة الغدر مثلاً على الأمير الحاكم تأتي كنوع من الاستعلاء الذكوري وإلغاء الآخر وتضخيم الذات ، وفي رأيي أن هذه الدراسة ليست إلا انحراف نقدي عن مسار فهم حقيقة النص والقصيدة وتحميلها أكثر مما تحتمل !
مشاركة :