يكتب الحسن بن الوزان تحت عنوان، أصل الأفارقة قائلا:لا يختلف مؤرخونا كثيراً فيما بينهم حول أصل الأفارقة، فذهب بعضهم إلى أن هؤلاء ينحدرون من الفلسطينيين، لأن الفلسطينيين طردوا من بلادهم على يد الأشوريين فلجأوا إلى إفريقيا، ولما وجدوا هذا القطر طيباً وخصباً توقفوا فيه. ويقدم الآخرون رأياً آخر يرى أن أصلهم يعود للسبأيين، وهم قوم كانوا يعيشون في بلاد العرب السعيدة، اليمن، وذلك قبل أن يطردهم الأشوريون أو الإثيوبيون. ويرى آخرون أن الأفارقة كانوا من سكان بعض مناطق آسيا، وأن أقواماً آخرين شنوا عليهم الحرب، فانهزموا باتجاه بلاد اليونان التي كانت خاوية حينذاك، ولكن العدو تعقبهم فاضطروا لعبور بحر الموره، ولدى وصولهم إلى إفريقيا استقروا فيها، بينما استوطن أعداؤهم بلاد اليونان. في كتابه وصف إفريقيا وما فيها من أشياء جديرة بالاهتمام، أو المعروف بوصف إفريقيا، يأخذنا الحسن بن الوزان في رحلة يقدم من خلالها شرحاً مفصلاً لكل ما يتعلق بهذه القارة من منظور رحالة وعالم عاش على تخوم القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي. في الكتاب أبحاث عن منشأ اسم إفريقيا وحدودها وأقسامها وأجناسها وممالكها وأصول سكانها ودياناتها ومناخها والكتابة التي يستخدمها الأفارقة وسماتهم وعاداتهم وتقاليدهم، في الكتاب بإمكانك مشاهدة جبال إفريقيا ووديانها وبحيراتها وأنهارها، وأن تتجول بين مدنها وطرقاتها ومراكزها العلمية ومكتباتها القديمة، فضلاً عن معلومات تتعلق بالحياة البرية: الحيوانات والطيور...إلخ. بخلاف معلوماته الغزيرة وإضافاته العلمية في هذا الكتاب وغيره، ستجد أمامك شخصية ثرية، فهو مولود في غرناطة الأندلسية، في تاريخ غير معلوم على وجه الدقة في نهايات القرن الخامس عشر الميلادي، وعاش طفولته في فاس، وعندما بلغ السابعة عشرة ذهب مع خاله في بعثة رسمية من السلطان إلى تمبكتو، تلك الحاضرة المتألقة آنذاك، مارس التجارة وجمع عدة ثروات فقدها في مناسبات مختلفة، تزوج من ابنة خاله في أعقاب وفاة هذا الأخير، نفاه سلطان المغرب لمدة عامين بسبب اتهامه بالتآمر، فجاب إفريقيا مرة أخرى حتى وصل إلى مصر حيث عم الطاعون البلاد، ولكنه لم يخش الإصابة، ودخل القاهرة في عصر قانصوه الغوري، وعاش فيها وتاجر وربح وتقرب من السلطان وتزوج جركسية، ومع صعود نجم العثمانيين، هرب مع زوجته إلى فاس فوجد نفسه أنه لايزال مطلوباً مرة أخرى، فرحل إلى تونس، ومنها ذهب للحج، وفي طريق عودته أسره القراصنة بالقرب من شاطىء جزيرة جربة، ووجد نفسه في الفاتيكان مسجوناً، بعد فترة قابل البابا ليو العاشر، فاشترط عليه أن يعلم العربية وآدابها للطلاب، وفي المقابل يتعلم اللاتينية والإيطالية والعبرية والألمانية، وأطلق عليه اسم ليون جيوفاني ميديتشي، والذي عُرف في الغرب بليون الإفريقي. ومع الاضطرابات الدينية في أوروبا تعرض للسجن لمدة عامين، ووظفه بابا آخر في مهام دبلوماسية، وتزوج من امرأة إيطالية، وكتب وصف إفريقيا في تسعة شهور بالإيطالية، ولم يترجمه إلى العربية، وفي اضطراب آخر شهدته روما، يهرب الوزان مع زوجته إلى تونس، تاركاً وراءه الكثير من المؤلفات منها: تراجم الأطباء والفلاسفة العرب، كتب فيه عن 30 من أشهر الأطباء والفلاسفة العرب، والفقه الإسلامي، والنحو والصرف، وقاموس الألفاظ، بما يعني أن الرجل لم يكن مجرد رحالة أو شخصية عاشت حياتها للتعرف إلى الثقافات والحضارات الأخرى، وإنما أيضا امتلك ثقافة موسوعية لافتة. بريق خاص تكتسب شخصية الوزان بريقها أيضاً من بعض الغموض الذي أحاط بها، فتاريخ الميلاد غير محدد بدقة، وكذلك الوفاة، و هناك اختلافات حول مكان الوفاة، بين تونس والمغرب والجزائر، فضلاً عن معاصرته لأحداث فارقة في الثقافتين العربية والأوروبية، سقوط غرناطة، وفرار أسرته إلى المغرب، صعود العثمانيين، واختراع الطباعة في الغرب، وهي الأحداث التي يستثمرها ببراعة أمين معلوف في روايته الأشهر ليون الإفريقي، طبع كتاب وصف إفريقيا، للمرة الأولى في عام 1550 في إيطاليا، وأعيد طبعه عدة مرات في أعوام 1554و1588و 1606 و1613و 1830، ثم ترجم إلى اللاتينية، وإلى الفرنسية، وتكررت طباعته في باريس وهولندا ولندن، وألمانيا، وترجمه الدكتور عبد الرحمن حميدة إلى العربية في عام 1979، في 700 صفحة من القطع الكبير عن النسخة الفرنسية الصادرة في عام 1956 في جزأين، وهناك نسخة من كتابه عن النحو في مكتبة الاسكوريال، ويقول حميدة في مقدمته لوصف إفريقيا، إن الوزان كان ينوي الكتابة عن وصف أوروبا، و عن البلاد الأخرى التي زارها في جزيرة العرب وأسيا الصغرى وأرمينيا وبلاد فارس والتتر والقسطنطينية، ولكن لم يمهله القدر لتحقيق كل ذلك، ويتضاعف ثراء الشخصية عندما يقول حميدة:والحسن الوزان الذي خاض في شبابه معارك ضد البرتغاليين، يوردها في مناسبات عدة في تضاعيف كتابه، مع جيوش بني مرين، لا يخفي كرهه للبرتغاليين والإسبان القساة وسواهم من نصارى أوروبا الذين لا يكفون عن الإغارة على بلاد المسلمين والتنكيل بأهلهان مدفوعين بنزعة صليبية مقيتة، تجلت على الخصوص لدى فرسان القديس يوحنا، مثلما كان يعبر عن مقته تجاه الأعراب الذين كان بعضهم لا يتورع عن التطوع للمحاربة في صفوف البرتغاليين. في رحلته الأولى من فاس إلى تمبكتو، يصف الأديب، سليمان فياض في كتابه عن الوزان وعي فتى في السابعة عشرة، يخرج للمرة الأولى من مدينته في رحلة يشاهد فيها أهل مدينة سفرو، الأثرياء الذين يرتدون ثياباً متسخة، ويعرف أنهم أرهقوا بالضرائب فتظاهروا بالفقر وسوء الحال، ودهشته لأطلال مدينة نميدية التي كان أهلها من عباد الأصنام قبل الإسلام، ثم يمر على قرية الآبار المائية، وبين جبال الأطلس، يقابل قبائل تقرأ وتكتب، ويشاهد مكتبات ضخمة، يخبره أحد التجار أن الاتجار في الكتب بشرق إفريقيا مربح للغاية، وخاصة في تمبكتو، وفي جبال الزيز تختلط الشخصية بأبعادها مع خيال الأديب، حيث يشاهد الرحالة الأفاعي وهي تزحف وادعة أليفة بين البيوت مع القطط والكلاب، وتأكل من أيدي الناس فتات الخبز، دون أن تصيبهم بأذى، أما سهل سجلماسة، فيحتوي على عدد لا يحصى من النخيل، وهناك واحات توات وغرارة، فضلاً عن الصحراء المغربية المهلكة، حيث يقرأ الوزان وفق فياض على أحد شواهد القبور: هنا يرقد رجلان أحدهما غني والآخر فقير لا يملك سوى نصف قدح من الماء. وكان كلاهما ظامئاً. فاشترى الغني من الفقير ما معه من ماء، بعشرة آلاف دينار ذهبي. وعندما خطا كل من البائع والمشتري نحو صاحبه، سقطا معاً ميتين من العطش. يقسم الحسن بن الوزان إفريقيا في كتابه إلى 4 أقسام: بلاد البربر، نوميديا، ليبيا، وبلاد السودان. وتستوقفنا تلك البلاد التي يطلق عليها نوميديا ويقول عنها: أما القسم الثاني فيسميه اللاتين نوميديا، وتبدأ من شرق الواحات، وهي مدينة على مسافة مئة ميل من مصر، وتمتد غرباً حتى نون الواقعة على ساحل المحيط، وتمتد شمالاً حتى جبال الأطلس على السفح الجنوبي، وبذلك تتاخم رمال صحارى ليبيا من الجنوب، ويطلق العرب نفس الاسم على كل هذه الأصقاع التي تنتج التمور، لأن لها جميعاً نفس الموقع. وتستغرق تلك الأقسام الكتاب بأكمله مع شعورنا أننا أمام عين ترصد أنظمة الحكم، مثل مصر على سبيل المثال، والتي يتتبع فيها كل شاردة وواردة عن التاريخ والجهاز الإداري، ويبدو أنه اطلع في القاهرة على أعمال مؤرخي تلك الفترة العظام، أما بقية ممالك إفريقيا فهو لا يغفل فيها العادات والتقاليد و الأزياء و السلوكيات وحتى الأمراض وأسبابها. تجوال ثقافي ويتجول الوزان بين أقوام إفريقيا، ويقسم الأفارقة البيض إلى 5 أقوام هي: صنهاجة، مصمودة، زناته، هوارة، وغماره، وكلهم يتكلمون لغة آوال آمازيغ، أي اللغة النبيلة، ويطلق عليها العرب اللغة البربرية، وكلما زادت المفردات العربية في إحدى لهجات قبائل الأمازيغ يذهب الوزان إلى تغلغل العروبة في تلك القبيلة، ثم يتتبع لغات إفريقيا وطرائق كتابتها، حيث يتكلم الناس في السودان لغات متنوعة، منها: سونغي وهي الدارجة في ولاتّه وتمبكتو ومالي وغاغو، وهناك لغة أخرى تدعى غوبر، وتستعمل في بلاد غوب وكانو وكاسينا، ولغة ثالثة في مملكة النوبة، وهي مزيج من العربية والكلدانية..إلخ. يخصص الوزان القسم التاسع لأكثر الأنهار والنباتات والحيوانات شهرة في إفريقيا، يكتب عن نهر تانسفت قائلا:التانسفت نهر كبير ينشأ في الأطلس قرب مدينة تدعى أنيماي إلى الشرق من مراكش، ويجري نحو الغرب من خلال سهول إلى أن يصب في المحيط.. وهو نهر عميق جداً، ولكن يمكن اجتيازه خوضاً في بعض الأمكنة، مع أن الماء يغطي ركابات الخيال، ويضطر الماشي إلى خلع ثيابه كي يقطعه، ويوجد قرب مراكش جسر بناه الملك المنصور، وعليه خمس عشرة قنطرة، وهو من أجمل الأبنية التي توجد في إفريقيا، ثم يسترسل في وصف أنهار تساوين، واد العبيد، أم الربيع، أبو الرقراق، البهت، السبو، اللّكوس، ملّولو، الملوية، زاء، التافنة، المينا، الشلف، الشفة، النهرالكبير، سوفغنار، إيدوغ، ...وعشرات الأنهار الأخرى، ويفرد مساحة واسعة لنهر النيل بحيواناته وزراعاته والأقوام التي تمارس الزراعة على ضفتيه، ويتحدث عن الأساطير والحكايات المرتبطة به، ولكنه يستطرد بروح العالم: ولو سردنا كل ما قاله الجغرافيون عن النيل، إذن لأصيب كل الناس بالدهشة والتعجب، ومن المحتمل ألا يصدقوا ذلك، ولهذا لن نتعرض لذلك بشىء، كيلا يضيع الوقت في أمور غير موثوق بها. اهتم الغرب مبكراً بكتابات الوزان وحياته، ففضلاً عن الطبعات المتلاحقة والمتعددة اللغات لكتابه، خصص له المستشرق المعروف، لويس ماسينون دراسة مستفيضة ضمن بحثه عن تاريخ المغرب، وأفرد له المستشرق كراتشكوفسكي، بحثاً جيداً في مؤلفه الضخم الأدب الجغرافي عند العرب، أما في العالم العربي فجاء التعريف به متأخراً، حيث يقول د.عبد الرحمن حميدة في مقدمة ترجمته لوصف إفريقيا أن أول ذكر للوزان جاء في مجلة المقتطف المصرية، ضمن دراسة لسليم ميخائيل شحادة في عام 1883، كما تعرض له عزيز بنعبد الله في كتابه الطب والأطباء في المغرب في عام 1960، ثم يورد قائمة شحيحة للغاية، بمن اهتم به من الباحثين والدارسين العرب. عاش الوزان على تخوم القرن العاشر الهجري، وشهد الكثير من التقلبات، وألهم بفضائه الكوزموبوليتاني الكثيرين للكتابة عنه، وربما يكون أول من كتب عن إفريقيا بهذه الموسوعية، فاتحاً الطريق لمن جاء بعده لدراسة وبحث ثقافات ومجتمعات هذه القارة، وأكد بكتاباته أو رؤيته أو حتى من خلال سيرته أن الحكمة ضالة الباحث، والشغوف بالعلم والمعرفة يجدها طالما بحث عنها بجد وإخلاص.
مشاركة :