نصف قرن من الشعر

  • 5/16/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

سعيد الكفراوي (1) يمكن كنا فى منتصف التسعينات، تقريباً.. أنا وهو، رفقة من نصف قرن أيضاً.. محمد عفيفي مطر، شاعر العرب الكبير، عليه رحمة الله. زيارة للبلد الذي يقطن به، قرية هناك، وسط الدلتا، تدعى رملة الأنجب، وهو ابنها النجيب، الذي كان يمد يراعه، ويحدق في أفقها المفتوح على الاحتمالات، هو شاعر الأرض والدم. محمد عفيفي مطر وكنيته الشاعر، ذلك الذي رحل عن الدنيا تاركاً، بغير تواضع، إضافة مهمة لشعر العرب، أراه يمضي أمامي على جسر النهر، مرتلاً الشعر. تلبس الشمس قميص الدم، في ركبتها جرح بعرض الريح والأفق ينابيع مفتوحة للطير والنخل سلام هي حتى مشرق النوم سلام. ينتفض فضاء الحقول من حلاوة الشعر، ثم يستدير ناحيتي ويقص حكايته: أخبرتني أمي أنها ولدتني فى الحقول، ذهبت لتملأ جرتها من النعناعية ففاجأها طلق المخاض وهى تغمس الجرة في الماء، فدخلت بين أعواد الذرة، ودون مساعدة من أحد، أخرجتني إلى الدنيا، ووضعتني في حجرها وعادت بي مسرعة،، ولعلي من يومها أحمل لحظة الميلاد وشماً جسدياً وروحياً لا يزول: يصمت ويعود ليرتل الشعر: ها نحن جئنا وقد فاتنا الوقت فاسمع صدى القوس ترسمه في الفراغ الأساور والورد، ساق بين اللبن المتفجر عن ناره ارتفعت بين مواطن: أقدامنا الشموس المقيمة في الروح والوقت كان الظهيرة (2) عاش محمد عفيفي مطر الذي رافقته / نصف قرن من الشعر، والنضال السياسي، إيمانه بقضية العرب وفلسطين، الذي دفع بسببها من حياته الكثير، التهميش، والاستبعاد. عاش مثل عاصفة، يجدد في قصيدته، بناء، ومعنى، شعرية كانت تهب من كل أنحاء القصيدة، محملة بالظلال، وتراث العرب، وتجسيد مشهد قريته، وريفه، حيث مكان الميلاد، والمثوى الأخير للحياة. يحدق بالقصيدة حيث العلو البهيج، سيداً للمسافات، قابضاً على لؤلؤة المستحيل، أتأمله في دواوينه المتعددة، التي تحتشد بالرؤى، والظلال، والكد فيها عرقاً للكادحين، باحثاً عن سرها الفطري، وكأنه عبرها يرسم حياته، مثل رجل بورخيس العظيم: الذي اقترح على نفسه مهمة رسم العالم: وخلال سنوات طويلة أثث الفضاء بصورة الأقاليم والممالك والجبال والخلجان والسفن. الأسماك والمنازل، وقبل أن يقضي نحبه بقليل، اكتشف الرجل أن المتاهة التي دأب زمناً على رسمها إنما كانت ترسم صورة وجهه هو حكاية من ترجمة إبراهيم الخطيب. (3) عن مجلة دبي الثقافية صدر ديوانه الأخير ملكوت عبدالله كتبه منجماً بخط يده، وسلمه لرئيس تحريرها الفاضل، وصدر الديوان بعد رحيل الشاعر عن الدنيا. كان قد رحل يحمل في صدره ألم الحياة، وجرح النكران العميق، وأثر السجن في البدن، ومخاوفه من العجز من المرض، واختلاط الأزمنة وغدرها، هو من حمل مشروعه الشعري حلقاته الثلاث: الأولى: الانتساب بالتحصيل من الثقافات والتأثر والنقض والمشاغبة: التراث المصري القديم والثقافة الإغريقية والتراث العربي ومدارس الجدل والتفلسف، وأرضية التراث الشعبي. والثانية: فلسفة سقراط واليونانيين والدم السيال من تراث الصهيونية الممتد حتى هزيمة يونيو/حزيران 1967. والثالثة: تبدأ بديوان والنهر يلبس الأقنعة: فاتحة الطيران الحر في أجواء الشعر والفلسفة مع رباعيات الفرح وأنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت والخاتمة مع، فاصلة إيقاع النمل، الرصد الواقعي لتجربة اعتقال في سجون أمن الدولة في لاظوغلي حتى آخر دوائره الكتابة للطفل في كتب مثل مسامرة الأولاد حتى لا يناموا. يقبض الشعر في ديوانملكوت عبداللهعلى تجربة الشاعر، ويقدم تلك التجربة تمجيداً للحياة. تراثها، والديوان قصائده تنشد للحفيد، وتقدم مضمونها الشعري بافتخار حيث ترى الدنيا، وما يجري عبرها، وعبر الحكاية، وتحوله خلال المخيلة إلى فن جميل، والبشر في القصائد منتزعين من قلب الحكاية حتى يعيشوا خلودهم على الورق. ينحاز مطر للشعر الذي يجدد المسارات، وتحتشد اللغة لتجسد رؤى الشاعر، باحثة عن عوالمها، كاشفة عن سرها الفطري، منقبة عن الغور البعيد لأرض الشاعر ودمه: الشمس في حجر الكلام، تلبس قميص الدم، سلام هي حتى مشرق النوم.

مشاركة :