مَدارُ الحضانةِ على نَفْعِ المحضون

  • 5/16/2016
  • 00:00
  • 88
  • 0
  • 0
news-picture

الحَضانةُ في لغة العرب مشتقَّةٌ من الحِضْنِ وهو ما بين الخاصرة إلى الإبط، وربَّما أُطلِقَ الحِضْنُ على الصدر، والـأُمُّ تحضِنُ ولَدَها -والولدُ يُطلَق على الابن والبنت- إذا ضمَّتْه إلى صدرها، حنانًا عليه وحِفظًا له، وأطلق الفقهاءُ الحضانةَ على حِفظِ الولدِ، فالصغير محتاجٌ إلى الرِّعاية، والأمُّ أقدرُ مِن الأب على رعايته، فهي بحوائجِه أَبْصَر، وعندها مِن الصبر عليه وتحمُّل مشاقِّ تربيته، ما ليس عند الأب، فكانتْ أحقَّ بالحضانة، والأمُّ أحقُّ الناس بحُسْن صُحْبَة ولدِها كما في الحديث، ولذلك جعل اللهُ ولايةَ الحضانة لها، فقال: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)، وهذا إذا كانت أهلًا للحضانة، وأما إذا كانتْ عاجزةً عن الحضانة لمرضٍ ونحوه، فلا حضانة لها، وقد حكى اللهُ تعالى عن نبيِّ الله موسى عليه السلام، أنه ردَّه لأحقِّ الناس بحضانته، وهي أُمُّه، فقال سبحانه: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ) وهذه مِنَّةٌ على المحضون، لأنَّ حضانةَ أُمِّه أكملُ لهُ وأتمُّ مِن حضانة غيرها، وهي كذلك مِنَّةٌ على الأُمِّ، فسعادةُ الأُمِّ بولدها لا تَعدِلُها سعادة، فقرَّتْ عينُها بنجاتِه من الغرق والهلاك، وبرجوعه إليها، وانتَفَى عنها الحزن، بسبب عدَمِ وصول لبنِ غيرها إلى بطنه، ومن ذلك أنَّ امرأةً جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا، كانَ بطني له وِعاءً، وثَدْيي له سقاءً، وحِجري له حِواءً، وإنَّ أباه طلَّقني، ويريدُ أنْ يأخذَه مِنِّي، فقال لها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أنتِ أَحَقُّ به، ما لم تَتزوَّجي)، ومن ذلك أنَّ الخليفة الراشد عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه-، تزوَّج جميلةَ بنت عاصم الأنصاريَّة، فولدتْ له ابناً، فسمَّاه عاصماً، ثم إنَّه طلَّقها بعد ذلك، وحين شَبَّ عاصمٌ عن الفطام، وصار يمشي، رآه سيِّدُنا عمرُ يلعب بفناء مسجد قباء مع جدَّتِه لأُمِّه، فقال لها: أنا أحقُّ بابني منكِ، فاختصما إلى أبي بكرٍ -رضي الله عنه-، فقضَى به للجدَّة، وقال لِعُمَر: (هي أعطفُ وألْطفُ وأرحمُ وأحقُّ وأَرْأَفُ)، ثم قال له: (ريحُها وحِجْرُها وفراشُها خيرٌ له منكَ)، واستناداً إلى هذا، فإنه لا يجوز مِن الوالدين أن يتنازعا، وعليهما أنْ يرضيا بِحُكْم الله تعالى، فيعرفُ كلُّ واحدٍ منهما ماذا أوجَبَه الله عليه تجاه صغيره، فيؤدِّيه على أكمل وجْهٍ وأتمِّه، من غير أنْ يَدخل في نزاعاتٍ تُشغل الوالدين، وتُوغِرُ صدْريهما، وربَّما وقع من أحدهما أو مِن كليهما تَـجَنٍّ وكذبٌ على الآخر، وهكذا تُشغل المحاكمُ بهذه الخصومات، فربَّما أساءتْ بعض النِّساء، فجعَلَتْ مِن حقِّها في الحضانة سبيلًا لإيغار صَدْر أولادها على أبيهم، فحرَمَتْهم من أبيهم، فأضَرَّت بهم مِن حيث تظنُّ أنها تستأثر بحبِّهم لها، وربَّما أساء بعضُ الآباء، حين يُنازعُ الأبُ طليقتَه في أولادها، نكايةً بها وتَشَفٍّ منها، وقد يبلغ الأمر ببعض الرِّجال أنْ يبخل على أولاده، فلا يعطيهم من النفقة ما يكفيهم، إمَّا بُخلًا وتقتيرًا، وإمَّا معاندة لطليقته، وقد يُهدِّدُها بأخْذ صغيرها إنْ هيَ تزوَّجَتْ! فيَحْرمُها من الزواج، وهذا من ضَعْفٍ في الرُّجولة وقلَّةٍ في المروءة، فلا الأمُّ تستفيدُ من إساءتها لطليقها، ولا الأبُ يستفيد من إساءته لطليقته، ثم إنَّ الضَّررَ حاصلٌ للأولاد غالبًا، فمصلحة الأولاد تحصل بعدم الشقاق والنزاع بين أبويهم، فحقُّ المحضون في الحضانةِ آكَدُ الحقوق، وقد اختلف ثلاثةٌ من الصحابة الكرام في أحقِّيَّة الحضانة على عمارة بنت حمزة بن أبي طالب -رضي الله عنه وعنها-، واحتكموا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قد قال لفاطمة -رضي الله عنها-: (دونك ابنةُ عمِّكِ) فنازَعه في الحضانة أخوه جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة -رضي الله عنهم أجمعين-، وكان لكلٍّ واحدٍ منهم فيها شبهة، فقال عليٌّ: (ابنةُ عمِّي، وعندي ابنةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي أحقُّ بها)، وقال جعفر: (ابنةُ عمِّي وخالتُها -أسماء بنت عُميس- زوجتي) وقال زيد: (ابنةُ أخي) وكان زيدٌ وصيَّ حمزة، وأخاه من الرَّضاعة، فقضى بها النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لخالتها، فرجَّح جانب جعفر، فقال: (الخالةُ بمنزلة الأمِّ) ثم طيَّب خواطر الثلاثة، فقال لعليٍّ: (أنت منِّي وأنا منك) وقال لجعفر: (أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي) وقال لزيد: (أنت أخونا ومولانا) وللحديث بقيَّة.

مشاركة :