لم يحتج الأمر سوى 48 ساعة ليكتشف العالم أن الأذى والظلم الذي لحق بالسوريين خلال 54 عاما، وهي الفترة التي حكم فيها آل الأسد سوريا، قد طال السوريين بمختلف طوائفهم. بل قد تكون الطائفة العلوية أكثر طائفة طالها الأذى، لأنها حُمّلت وزر ما ارتكبته المجموعة الضيقة جدا والمقرّبة من النظام السوري مقابل وهم السلطة. رغم ادعاء النظام السابق العلمانية، ورغم عدم وضع الديانة على بطاقة الهوية في سوريا، إلّا أنه حاول في الخفاء أن يزرع خلافات طائفية ويوظفها بطريقة غير مباشرة، باعتماده على أبناء الطائفة لحراسته، وإعطائهم حصة أكبر في وظائف الدولة العليا، والبعثات الدبلوماسية. ما أن سقط النظام حتى اكتشفت الطائفة العلوية الفخ الذي نُصب لها ووقعت فيه؛ كل ما كان لديها من سلطة في الفترة السابقة مجرد وهم، وبسقوط النظام لم تخسر سوى الوهم الذي عاشت فيه على مدى نصف قرن. ◄ الآلاف من أبناء الطائفة العلوية الذين غادروا حمص على عجل باتجاه طرطوس واللاذقية، إثر دخول عناصر مقاتلة إلى المدينة، لم يكونوا مضطرين للمغادرة النظام في سوريا استعان بإيران وحزب الله وروسيا لحمايته وضمان استمرار حكمه، وليس من أجل حماية الأقليات. في حقيقة الأمر، سوريا كانت دائما بلدا للأقليات، والأقليات كانت تلجأ إليها طلبا للحماية، ومن حق السوريين أن يتفاخروا بأنهم بلد للأقليات وللتنوع العرقي والثقافي. خلال دراستي في كلية الفنون الجميلة في سبعينات القرن الماضي، سكنت في حارة اليهود، بحي الأمين الملاصق لمنطقة “القشلة” بباب شرقي، على بعد خطوات من باب توما. المنطقة التي أتحدث عنها كانت بمثابة “جوراسيك بارك”. حديقة للتنوع العرقي والمذهبي والطائفي. البناء الذي سكنت فيه سكن فيه أصدقاء علويون ودروز وإسماعيليون وأكراد ومسيحيون وأرمن وسنة، كان في زقاق ضيق مواجه لكنيس يهودي. وكنت أشتري ما أحتاج إليه يوميا من مواد غذائية من بقال يهودي، وعندما أمرض كنت أذهب لطبيب يهودي في نفس الحي. خمس سنوات عشتها في جوراسيك التنوع السوري، كنا جميعا أصدقاء مقربين، وجميعنا دفع ثمن أخطاء النظام البعثي السوري. غادرت سوريا في بداية الثمانينات، وبعد ثلاثين عاما، عام 2010 بالتحديد، عدت إليها في زيارة يتيمة، بعد أن حصلت عن طريق السفارة السورية في تونس على رسالة تسمح لي بزيارة بلدي لمرة واحدة ولمدة لا تتجاوز الشهر. لا أعتقد أن هناك بلدا غير سوريا يحتاج فيه أبناؤه المغتربون إلى رخصة لزيارته. ◄ ما زال الوقت مبكرا لمعرفة كيف ستتطور الأمور. لكن، جوراسيك بارك التي احتوت أحلامنا يوما مازال فيها متسع للجميع ذهبت إلى نفس الحي، وأقمت في منزل صديق الدراسة والسكن الفنان والنحات الرائع مصطفى علي. اكتشفت أن المنطقة ما زالت تتباهى بأنها حديقة للتنوع. الذين انتظروا أو توقعوا مع سقوط النظام السابق حصول حمام دم بين أبناء الطائفة العلوية وطائفة السنة خاب أملهم. لم تُسجل أيّ تصادمات بين أبناء الطائفتين في منطقة الساحل السوري. على العكس تماما، خرج أبناء المنطقة بمختلف طوائفهم إلى الشارع ليعبّروا عن فرحتهم بسقوط النظام. المفاجأة كانت في بلدة “القرداحة” العلوية، مسقط رأس الأسد الواقعة في جبال محافظة اللاذقية في شمال غرب سوريا، حيث التقى وفد من قوات المعارضة السورية التي أطاحت بحكم بشار الأسد بالعشرات من رجال الدين والشيوخ في مبنى مجلس البلدة، قبل أن يوقع وجهاء العلويين على بيان دعم. البيان الذي وقعه نحو 30 من وجهاء وأعيان ومشايخ القرداحة أكد على ضرورة الحفاظ على “وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية”. وشدد على احترام التنوع الديني والثقافي. ودعا إلى عودة الشرطة والخدمات الحكومية لمدينة وريف القرداحة في أسرع وقت ممكن تحت إدارة الحكام الجدد، ووافق على تسليم أيّ أسلحة بحوزة السكان المحليين. ◄ ما أن سقط النظام حتى اكتشفت الطائفة العلوية الفخ الذي نُصب لها ووقعت فيه؛ كل ما كان لديها من سلطة في الفترة السابقة مجرد وهم الزيارة التي فاجأت الجميع رأى فيها سكان البلدة علامة مشجعة على التسامح من جانب حكام البلاد الجدد. ولأنني واحد من أبناء مدينة اللاذقية، لا أخفي أنني كنت قلقا وخائفا على أهلي وأصدقائي من أعمال عنف قد تجري هناك، خاصة مع توقع الكثير من المحللين وأشباه المحللين حمام دم بين أبناء الطائفة العلوية والسنية. ثبت، حتى الآن على الأقل، أن مخاوفي ومخاوف الآخرين ليست في محلها، وأن الآلاف من أبناء الطائفة العلوية الذين غادروا حمص على عجل باتجاه طرطوس واللاذقية، إثر دخول عناصر مقاتلة إلى المدينة، لم يكونوا مضطرين للمغادرة. طالما نشر النظام بطرق مباشرة وغير مباشرة معلومات تقول إن السنة سيرتكبون مجازر بحق أبناء الطائفة العلوية إذا سقط. وشجع على امتلاك الأسلحة وتخزينها. سقط النظام، وبدلا من أن يقتحم مقاتلو هيئة تحرير الشام منطقة الساحل السوري، بلدة القرداحة تحديدا، توجهوا إليها حاملين رسالة تسامح ودعوة للعيش معا بسلام. ما زال الوقت مبكرا لمعرفة كيف ستتطور الأمور. لكن، جوراسيك بارك التي احتوت أحلامنا يوما مازال فيها متسع للجميع.
مشاركة :