خلال لقاء لوزراء الخارجية العرب في القاهرة العام 2011 اندلع تلاسن بين وزير الخارجية الجزائري الراحل مراد مدلسي ونظيره القطري حمد بن جاسم آل ثاني، وأبرز ما سمعه الوزير الجزائري أمام أسماع الحضور وتسرب لوسائل الإعلام “سننهي الوضع في سوريا ونتفرغ لكم،” وهو التهديد الذي أماط اللثام عن عرابي موجة الربيع العربي، وعن وضع الجزائر في ترتيب الدول المستهدفة. العلاقات الجزائرية – السورية، في عمقها هي وليدة مسار وسيرة الأمير عبدالقادر، الذي اختار دمشق للإقامة بعد مغادرته الأسر الفرنسي، وهناك انصهرت وتبلورت علاقات الشعبين، لكنها في الشكل تعززت لما صار “الكل في الهم سوا”، فالمخاطر التي تهددهما واحدة، والأنظمة السياسية متشابهة في أبعادها الأيديولوجية والقومية، ولذلك ظل محور الجزائر – دمشق دافئا حتى في ذروة الفتور العربي. واليوم سقط نظام بشار الأسد، وعاد الحديث في الدوائر نفسها عن مصير النظام الجزائري، اعتقادا منها أن الجزائر التي فقدت حليفا نادرا في المنطقة (هو النظام العربي الوحيد الذي يعترف بجبهة بوليساريو المدعومة من طرف الجزائر) ستفقد سوريا للأبد وأن الحكام الجدد في دمشق سيؤشرون بالأحمر عليها. الحوار السياسي الذي وعد به الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في خطاب التنصيب لولايته الرئاسية الثانية، يتوجب أن يكون اليوم قبل الغد، لإرساء جبهة داخلية مسدودة المنافذ، صلبة البنية الجزائر لا تنكر دعمها لبشار الأسد طيلة السنوات الـ13 الماضية، وحتى خلال الأيام القليلة التي سبقت سقوط نظامه، ولها في ذلك ما يبرر موقفها فتجربتها خلال عشرية دموية راح ضحيتها 250 ألف جزائري، ولما كانت القاعدة وداعش تسرح وتمرح في العراق وسوريا وموجة الربيع العربي تطيح بالأنظمة تباعا، طبيعي أن تضع يديها في أول يد تقاسمها نفس المصير والتصور. لكن ذلك لا يجب أن يحجب دلالات السقوط السريع لنظام بشار الأسد في 13 يوما بعدما صمد 13عاما، لم يفهم خلالها التحولات والتغيرات المتسارعة في المنطقة والعالم، فقد ثبت في أول تجل أن المناعة السياسية لأي نظام لا يمكن أن يوفرها حليف أو صديق، فقد رمته إيران وروسيا وأصيب حزب الله بالشلل، وأن أول مصدر لها هو الشعب بمختلف فئاته وطبقاته. سيبقى سقوط الأسد عبرة لكل الأنظمة السياسية المماثلة، بما فيها النظام الجزائري الذي لا يجب أن يغفله الوفاق مع أيّ نظام أو عاصمة سواء كانت طهران أو موسكو أو باريس أو واشنطن، عن الجبهة الداخلية، فلو كان لبشار الأسد قدر من تأييد السوريين لما ثار في وجهه أغلبهم ولما انقلب عليه مقربوه بمن فيهم طائفته، ولما أدار له الروس والإيرانيون ظهورهم. الدفاع عن الحقوق الطبيعية العربية ومناهضة عدو الأمة، لن يكون مبررا في المستقبل للإطناب في حلف الممانعة، وترديد الشعارات الجوفاء، فقد أثبت سقوط بشار الأسد أنه لا يعدو أن يكون إلا مجرد مارد من كرتون، فقد تهاوى أحد أضلاعه والكل كان يتفرج فيه، وفوق ذلك ثبت أن المشروع لم يكن إلا مجرد غطاء سياسي يدغدغ مشاعر الجماهير من أجل حماية أنظمة سياسية تمقتها شعوبها. الجزائر التي لم تتخلف عن وعائها القومي منذ العهد الاستعماري إلى الحروب العربية – الإسرائيلية، صنفها نفس الوعاء في لائحة المنذرين بموجة الربيع العربي، وتعاد الآن إلى الواجهة، عبر تساؤل مفاده هل افتقادها لنظام الأسد سيفقدها سوريا، ودُفع ببعض المتنطعين إلى الواجهة يهددون بالزحف عليها، رغم أن خطاب الحكام الجدد يبدي إلى حد الآن توازنا واعتدالا في التعاطي مع موازين القوى المؤثرة بما في ذلك روسيا وإيران. البعض تغيب عليه في تلك الدوائر حقائق التاريخ وشخصية الجزائري، فيجري المقارنات والقياسات الهشة بين هذا النظام وذاك وبين هذا الشعب وذاك، ويبني أحكاما سطحية، لكن ذلك لا يمنع ضرورة مراجعة العديد من الأوراق، خاصة اللبس القائم بين الدفاع عن الحقوق القومية، وبين الإطناب في الخطابات التمويهية التي تستغل عواطف الناس في تثبيت أركان الأنظمة وليس الشعوب. الأحلاف الهشة والصداقات المزيفة لن تكون مصدرا لقوة أيّ نظام، ومفتاح المعادلة واحد ووحيد، وهو الجبهة الداخلية، فبقدر تماسكها وتضامنها بقدر صمودها وصمود النخبة الحاكمة عبارة واحدة من الرئيس الراحل أحمد بن بلة العام 1963 “حقرونا”، للتعبير عن هجوم الجيش المغربي على أقاليم جزائرية، أو ما يعرف بـ”حرب الرمال”، كانت كافية لثني جبهة القوى الاشتراكية وقادتها التاريخيين كحسين آيت أحمد والعقيد محمد أولحاج، لوقف التمرد المسلح والتوجه إلى بشار وتيندوف للدفاع عنهما، وهذه خاصية نادرة تؤكد أن الخلاف الداخلي يسقط أمام التهديد الخارجي في العقيدة الجزائرية. ومع ذلك يبقى ما للتاريخ للتاريخ تردده الأجيال، وما للراهن للراهن يحسبه الناس، والسقوط المدوي لبشار الأسد أسقط معه الكثير من الحقائق المزيفة، وعلى رأسها أن حلف الممانعة والقطبية المتعددة هي مجرد شعارات جوفاء وإلا ما تم التفريط في الرجل بكل هذه السهولة. الأحلاف الهشة والصداقات المزيفة لن تكون مصدرا لقوة أيّ نظام، ومفتاح المعادلة واحد ووحيد، وهو الجبهة الداخلية، فبقدر تماسكها وتضامنها بقدر صمودها وصمود النخبة الحاكمة، وبقدر هشاشتها وتفككها بقدر تعرضها للاختراق والانهيار. الحوار السياسي الذي وعد به الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في خطاب التنصيب لولايته الرئاسية الثانية، يتوجب أن يكون اليوم قبل الغد، لإرساء جبهة داخلية مسدودة المنافذ، صلبة البنية، فالهيبة لن تكون بخطب جوفاء أو استقواء بالخارج، بل بسد الفجوات ورأب الصدوع، وحينها فقط يكون رأس الدولة أو النخبة الحاكمة مسنودة إلى شعبها وليس إلى هذه العاصمة أو ذلك الحلف. بعد عبرة سقوط الأسد، وزحف السوريين على رموز نظامه، لا يجب أن يبقى الإقصاء والتهميش السياسي والاجتماعي، في أي بلد يريد نظامه البحث عن خلطة المناعة في وجه التحولات والتغيرات، لأن القوة الحقيقية بعد الثامن من شهر ديسمبر الجاري، ستكون قوة الجبهة الداخلية، وليس قوة الخطابات والأحلاف والأصدقاء.
مشاركة :