لا يزال الحديث عن العدالة الانتقالية خافتاً في سورية، بسبب التعقيدات الواسعة التي تحيط بمجمل المشهد السوري، بدءاً من الكلام عن ترتيبات دولية ساعدت في إسقاط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد بطريقة مفاجئة وسريعة، مروراً بما يشبه التسليم الدولي بتولية الفصائل السورية الملسحة المعارضة، بما فيها تلك التي لا تزال مصنّفة إرهابية في العديد من الدول، ووصولاً الى رغبة، تبدو جامعةً لدى غالبية من السوريين في طيّ صفحة حكم البعث، الذي امتد لنحو نصف قرن، وكان عنوانه الأبرز، القمع الفظيع والمرعب لأي صوت معارض. ورغم ذلك، دعت السفيرة الأميركية المتجولة لشؤون العدالة الجنائية العالمية، بيث فان شاك، الى عدالة انتقالية «شاملة وتشاركية» في سورية، وذلك في إحاطة صحافية عبر الإنترنت حول جولتها الإفريقية، شاركت فيها «الجريدة». وفي رد على سؤال وجّهته «الجريدة» لها عن الدروس أو التوصيات الأساسية للشعب السوري أثناء مواجهتهم تحديات إنشاء عملية عدالة انتقالية آمنة، شاملة وفعالة بعد نظام الأسد، قالت فان شاك: «لقد عانى الشعب السوري مجموعة واسعة من الفظائع على يد نظام الأسد، وكذلك على يد جماعات مسلحة أخرى كانت نشطة في هذا الصراع، بما في ذلك، بالطبع، تنظيم داعش الذي حاول في وقت ما إقامة خلافة قمعية في أجزاء من شمال سورية». وأضافت: «على مدى هذا الصراع - الذي نأمل أن يكون قد انتهى بشكل دراماتيكي الآن - كان الشعب السوري منخرطًا في مجموعة واسعة من جهود التوثيق. كما كانت هناك محادثات بين محامين سوريين أحرار وآخرين حول ما يمكن أن تبدو عليه العدالة. وتم إجراء دراسات استقصائية تستند إلى آراء السكان. والخلاصة الأساسية من كل هذا العمل التحضيري هي أن أي انتقال سياسي حقيقي لا يمكن أن يحدث من دون تحقيق مستوى من المساءلة»، مشددة على أن «الأفراد الذين تعرّضوا لأبشع انتهاكات حقوق الإنسان خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية يستحقون تحقيق العدالة، ويستحقون عملية كشف الحقيقة التي تسلّط الضوء على أسباب وعواقب هذه الانتهاكات». ولفتت المسؤولة الأميركية المعنية بشؤون العدالة الانتقالية حول العالم، إلى أن «هناك العديد من الآليات المختلفة التي يمكن أن تقدم هذه العدالة الشاملة للشعب. وبالتالي، تقع الآن على عاتق الحكومة الانتقالية مسؤولية إنشاء عملية شاملة يجب أن تشمل الأقليات العرقية، والنساء، والشباب، وجميع الفئات المختلفة من المجتمع السوري التي تأثرت بهذه الانتهاكات. كما يجب البحث عن طرق لتحقيق العدالة في هذا الصدد. وسيكون هذا مكملًا لما يحدث بالفعل حول العالم، سواء في المحاكم الأوروبية أو الآن في الولايات المتحدة أيضًا. ربما تكون قد سمعت أن وزارة العدل الأميركية وجّهت لوائح اتهام ضد أفراد تورّطوا في انتهاكات داخل سورية. وهكذا، نرى المحاكم الوطنية في جميع أنحاء العالم تستجيب لهذا الإفلات المنتشر من العقاب، والآن يقع على عاتق الحكومة الجديدة إنشاء عملية شاملة تتمحور حول الضحايا وتكون قائمة على المشاركة». وعبّرت المسؤولة عن أسفها لأن «أكثر من مئة ألف شخص لا يزالون في عداد المفقودين وغير معروف مصيرهم في سورية. وهذا يجب أن يكون أولوية رئيسية الآن. ولكن يجب القيام بذلك بطريقة منظمة ومدروسة وتشاركية. أشعر بالقلق قليلاً مما نراه على الأرض، إذ يبدو الوضع فوضويًا للغاية. الناجون يبحثون بأنفسهم عن وثائق لمعرفة أي معلومات أخيرة عن أحبائهم الذين ربما كانوا محتجزين. كما أن المعتقلين والسجناء المفرج عنهم حديثًا بحاجة إلى مساعدة فورية، سواء من حيث إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي، أو الإسعافات النفسية الأولية، أو الدعم النفسي طويل المدى للتعامل مع الصدمة الشديدة التي تعرّضوا لها خلال فترة احتجازهم، نظرًا لما نعرفه عن مدى انتشار التعذيب في مراكز الاحتجاز التابعة لنظام الأسد. كما ستكون لديهم احتياجات طبية واقتصادية. وبالطبع، هناك الملايين الذين ما زالوا نازحين داخل البلاد وفي الدول المجاورة، والذين يرغبون في العودة. ولكن يجب أن يعودوا بطريقة كريمة ومنظمة، مع ضمان الوصول إلى ممتلكاتهم التي تم الاستيلاء عليها في بعض الأحيان من قبل نظام الأسد». وشددت على أهمية «الحاجة الفورية والملحّة للحفاظ على ملايين الوثائق التي كانت مخزنة سابقًا في السجون، ومراكز الاحتجاز، والمرافق العسكرية، والمباني الحكومية الأخرى. هذه الوثائق ستكون ضرورية وأساسية لجهود المساءلة المستقبلية وللبحث عن المفقودين والمختفين». ولفتت الى ضرورة «تأمين المقابر الجماعية والسرية، حتى يتمكن الخبراء الجنائيون من توثيقها، واستخراجها، وتحديد الرفات، وإعادتها إلى ذويهم لدفنها بشكل لائق. وأيضًا من المهم تتبُّع حركة الجناة الفارين. ومن المفهوم أن أسرة الأسد المباشرة قد حصلت على ملاذ آمن في روسيا، الحامي السابق لهم أمام مجلس الأمن الدولي وفي المحافل المتعددة الأطراف الأخرى، لكنّ روسيا لن تستقبل جميع الجناة، وهؤلاء الأشخاص سيحتاجون إلى إيجاد أماكن للجوء. وبالتالي، يجب أن نراقب تحركاتهم ونعرف ما إذا كانوا يسافرون بأسمائهم الحقيقية أو بهويات جديدة قد يحاولون إنشاءها لأنفسهم». وقالت إنه «لحُسن الحظ، كما ذكرت، أن المجتمع الدولي قد تحرّك بالفعل لتقديم المساءلة عندما يتم العثور على الجناة في صفوفهم. لذلك لدينا بالفعل ملفات ضخمة توثق هيكلية الفظائع داخل نظام الأسد. وبالتالي، فإن المحققين والمدعين العامين في جميع أنحاء العالم مستعدون لذلك، وسيتعرف الناجون لا محالة على معذبيهم السابقين عندما يظهرون في الأسواق المحلية أو عندما تنتشر الشائعات بأن شخصًا ما قد وصل إلى مجتمع معيّن في ألمانيا أو أماكن أخرى يوجد فيها جالية سورية كبيرة. وهكذا، طوّر المحققون علاقات مثمرة مع هذه الجاليات. وسنكشف وجود هؤلاء الجناة في الوقت المناسب». وختمت فان بيث: «هذه هي المرحلة الحالية. نحن بحاجة إلى عملية تشاركية طويلة الأمد للتفكير حقًا في شكل العدالة اللازمة لثلاثة عشر عامًا من الفظائع المروعة، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية ضد أبناء الشعب السوري».
مشاركة :