بيروت: سوسن الأبطح لم تمر احتفالية 100 سنة على ولادة الكاتب الفرنسي الوجودي ألبير كامو، مرور الكرام في العالم العربي، فإضافة إلى بعض النشاطات ولا سيما في مصر، يأتي صدور ترجمة «مفكرة كامو» بالعربية عن «دار الآداب» بفضل مشروع «كلمة» لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، كأفضل هدية يمكن أن يتلقاها القارئ في مناسبة كهذه. فالمفكرة بأجزائها الثلاثة، تترجم للمرة الأولى إلى لغة الضاد وتوضع بين يدي القراء، حاملة العناوين التالية: «لعبة الأوراق والنور» و«ذهب أزرق» و«عشب الأيام». وهذه الكتب تضم بين حناياها تسعة دفاتر دوّن عليها كامو ملاحظاته، بدءا من عام 1935 وحتى قبيل وفاته عام 1960، ليستعين بها بعد ذلك في صياغة كتبه، لكنها تبدو اليوم، من تلك الكتابات الحميمة اللذيذة التي يحلو لقراء كاتب ما أن يعودوا إليها طمعا في معرفة كواليسه والمزيد عن تفاصيله الشخصية. كان كامو قد راجع سبعة دفاتر من أصل تسعة قبل وفاته، حين نشرت بالفرنسية، ولم تمهله الحياة للعناية بما تبقى، فقام بعملية التحرير روجيه كيليو، ووافقت زوجة كامو وجان غرونييه ورينيه شار على العمل. المفكرة في جزئها الثالث أشبه بالمذكرات، إذ يكتب كامو بالتسلسل تحركاته وتنقلاته، وبعضا من رسائله ومحادثاته، وأعراض أمراضه الصحية. هذه الدفاتر رغم المتعة الأدبية التي يحصدها قارئها، تبدو لمن لا يعرف كامو جيدا، وقرأ رواياته عن قرب، رغم جماليتها العالية، أشبه بالكلمات المتقاطعة أحيانا. فالرجل لم يكتبها، في الأصل، لينشرها، وإنما ليستعين بها على تأليف كتبه، ومن هنا تأتي حرارتها وصعوبة فهم مغزى بعض مقاطعها، رغم أنها مزودة بملاحظات حول سيرته، وأخرى تشير إلى روابط تحيل إلى مؤلفاته. عامان قضتهما الأديبة اللبنانية نجوى بركات، في ترجمة «المفكرة» بدفاترها وصفحاتها التي ناهزت الألف. هناك صعوبات كان لا بد من تجاوزها، فنصوص المفكرة هي أشبه بنوتات، كل فكرة من بينها لها روحها وعالمها ونبضها. كتب كامو لنفسه، لهذا ترك لقلمه أن يسرد تعليقا على لوحة هنا ونقدا لشخص هناك، ولوما لآخر في مكان غيره، هذا عدا الاستشهادات التي جمعها لكتاب وفلاسفة للإفادة منها في كتابات يتحضر لإنجازها، من دون أن يوضح بالضرورة، وفي كل مرة، الغاية النهائية لما يسجله. كامو يتعرى أحيانا، يشرح نفسه، ينتقد بعض الظواهر، يعبر عن غضبه أو امتعاضه. في 15 سبتمبر (أيلول) من عام 1937 كتب يقول: «في كل مرة نرضخ فيها لترهاتنا، في كل مرة نفكر ونحيا لـ(المظاهر) نخون. وفي كل مرة هو بؤس حب الظهور الذي يجعلني ضئيلا في مواجهة الحقيقي. ما من ضرورة لتسليم أنفسنا إلى الآخرين، ولكن فقط من نحب. ذلك أن تسليم النفس، في هذه الحالة، لا يعود متعلقا بحب الظهور». تصف نجوى بركات هذه النصوص بأنها كانت «تشبه الشفرة أحيانا أو الحزازير، في أحيان أخرى» التي لا بد من فك غموضها، كي تتمكن من ترجمتها. فنقل هذا النوع من الكتابات يحتاج مترجما محبا لكامو، عارفا بكتاباته، كي يتمكن من فهم روح العمل، والتعمق في كنه المقاطع، وفهم مرامي تسجيلها. نجوى بركات عاشقة لكامو، تعترف أن أدباء فرنسيين كثيرين كتبوا أفضل منه، ربما كان سيلين أحدهم، لكن كامو بالنسبة لها هو «أديب ذو شخصية كاريزمية ليست لغيره. كتب من دون أن يلقي بالا لما يعجب أو يمكن ألا يعجب الآخرين. كان جريئا وشجاعا وصادقا، يهمه أن يكون حقيقيا و(إنسانويا) في مواقفه، وبمرور الوقت تبين أنه كان على حق». تدافع نجوى بركات بحماسة عن ألبير كامو حين تتحدث عنه قائلة: «ليس هذا لأنني ترجمته أبدا، بل العكس صحيح أنا ترجمت كامو لأنه أديب استثنائي في نظري، ولا يشبه أنتلجنسيا تلك الفترة. كان صادما، ولا يعنى كثيرا برأي الآخرين في ما يكتب». في الجزء الأول من المفكرة كتب كامو الملاحظة التالية: «إن قلت: أنا أفهم المسيحية، وأريد أن أعيش من دون عزاء. فأنت تكون حينئذ نفسا محدودة ومتحيزة، ولكن إن كنت تحيا من دون عزاء وتقول: أنا أفهم الموقف المسيحي وأنا معجب به. تكون هاويا من دون عمق. لقد بدأت أتغلب على حساسيتي إزاء آراء الآخرين». من الصعب ألا تعجب بشفافية كامو وأخلاقياته وأن تقرأ مفكرته. رجل عاش متسائلا وباحثا باستمرار عما يمكن أن يصنع إنسانية الإنسان. فقد كتب في 7 سبتمبر 1939 غاضبا، والحرب العالمية الثانية تدق طبولها: «هذا الحقد وهذا العنف اللذان نشعر بتعاظمهما لدى الناس، لم يعد في البشر أي نقاء، ولم يعد للأشياء أي قيمة. يفكرون جماعة. لا تلتقي إلا بأوباش، بوجوه أوروبيين حيوانية». هذا المقطع الذي كتب على أعتاب مأساة كونية يصل غاية يأسه عندما يكتب كامو: «هناك حتمية وحيدة ألا وهي الموت، وخارجها لا جود لأي حتمية، في الفضاء الزمني الممتد من المهد إلى اللحد، ما من شيء ثابت». نعيش مع كامو إذن في هذه المفكرة، بكتبها الثلاثة، كل الأحداث الجسام التي عاشها، والنضالات التي خاضها، في فترة عاشت خلالها أوروبا حروبا ومخاضات، وبرزت تيارات فكرية وفلسفية، كان الأديب جزءا منها. نجوى بركات ترى أن كامو، لم يكن يجاري تيارات عصره، لذلك هوجم كثيرا، وبدا وكأنه خارج ذاك الزمن. لكن بمرور الوقت ها نحن نتأكد من صوابية ما كان يفكر به كامو.. تقول بركات: «ونكتشف، عكس ما أشيع عنه في حياته، أنه كان عصريا جدا، ولا يزال. فالرجل إلى اليوم يثري ويغني قارئه. وفي زمن الثورات العربية والحروب يبدو كامو حاجة». هذا الأديب الذي تربى يتيما بعد أن توفي والده وهو صغير، وربته أمه فقيرا، وعملت في المنازل لتعيله، رأيناه يحصد «نوبل» وهو في زهوة العمر. وتجتاز كتاباته العقود، فتية نضرة من دون أن تفقد ألقها.
مشاركة :