كان الافتقار الى الموارد المادية والفنية والانسانية، في عصر شكسبير، جزءاً من المشهد المسرحي وإعداده. فالمسرح الاليزابيثي كان صريحاً ومباشراً، بريشتياً قبل الصفة والعبارة، ولا يحاول إقناع المشاهدين بما يتعدى طاقاته وموارده. وفي مسرحية «هنري الخامس» يتولى أحد الممثلين إبلاغ الجمهور أنهم 12 ممثلاً يؤدون أدوار المسرحية، وعلى المشاهدين تخيل جيش جرار يحارب في معركة أزانكور. فما يُستعرض على المسرح ليس إلا ذريعة يُتوسل بها الى الحلم والتصور. والمسرح الشكسبيري أورثنا إدراكاً ثابتاً بأن الأداء المسرحي لا ينفك من التنبيه الى اللعب والمحاكاة، وعلى الممثل ألا يغفل عن انه يمثل دوراً. وكتابة مسرح شكسبير تكرر القول وتبدي فيه وتعيد. وتتراكم الصور، صورة بعد صورة، سعياً في التأكيد، وفي اقتناص انتباه جمهور لا يستقر على قرار وضعيف التركيز. والمناجاة، أو مخاطبة الشخص نفسه، ليست أوقات انفراد، بل تفترض الجمع والكثرة، وتشاركهما الأسئلة والحيرة والتوقع. فهاملت يسأل على الملأ: «ماذا كنتم فاعلين لو أن أمكم تزوجت عمكم غداة موت أبيكم؟». وانتظار الجواب يلد صمتاً هو من المسرح بمنزلة جوهره أو ماهيته. وأنا أرى أن أداء أدوار المسرح الشكسبيري هو في مثابة الوقوع على جلبة العالم في قعر جرة وحفظ هذه الجلبة عن ظهر قلب. وكان (عالم الفيزياء الحائز جائزة نوبل في 1992) جورج شارباك يعتقد بوجود الأصوات المتحجرة، ويحسب أن خزّافاً يغني وهو يدير دولابه ينقل الى الطين الذي تُعمل فيه آلته ذبذبات صوته، على شاكلة الحفر في شمع الأسطوانة. فإذا مشينا الطريق مقلوباً، من الذبذبات المحفورة في الطين الى غناء الخزّاف، سمعنا الصوت الحسي. فلنفترض، على هذا المنوال، ان شخوص شكسبير هم بشر حقيقيون تلفظوا فعلاً بكلماته. وعليه، فأداء أدوارهم يقتضي إحياء اصواتهم ونبراتهم الأولى. فما الشاعر غير جهاز تسجيل وقته وزمنه. وقد يرى بعض المعاصرين أن الجرائم الدامية التي تملأ مسرحيات شكسبير، والضحك البذيء الذي تعج به أعماله الكوميدية، مدعاة نفور، اليوم. وأنا لا أرى ذلك، على رغم الإقامة على الجمع بين المضحك وبين العامي، وبين المأسوي والشريف. فنحن تحررنا من معايير تاريخ مسرحي (فرنسي) حال بيننا وبين الإقرار بمكانة شكسبير المسرحية. وحين رأى ديدرو (1713-1784) ممثلين انكليزاً للمرة الأولى، أدهشه اداؤهم أدوارهم من غير نص محفوظ. فهو ألفَ صنيع الفرنسيين الذين كانوا يعمدون الى اتخاذ الأوضاع المتوقعة، وينتظرون الوقت الذي يدعون فيه الى الإلقاء الخطابي. فمسرحنا (الفرنسي) يعظم الأداء وصاحبه، ويحمل الممثل على المبالغة في الإيهام. وفي «علبة» مثلثة الجدران، على النمط الإيطالي، يوصد الجدار الرابع، أي الجمهور، «العلبة»، ويحيلها فقاعة. وفي مسرح الـ «غلوب»، يحيط الجمهور بالخشبات من الجهات كلها، إحاطة مياه البحر بالعبَّارة. وليس في مستطاع الممثل إلزام الجمهور بتصديق تمثيله سلفاً، بل عليه ان يستدرجه الى التصديق. فتجسيد ريتشارد الثالث تجسيداً مسرحياً مقنعاً يقتضي البرهان وإقامة الحجة عليه. ولا يتناقض تظهير الدور وجلوته (على نحو ما تجلى العروس) مع إقامة الحجة على الجمهور وإقناعه بالجرائم التي ارتكبها من يؤدي الممثل دورهم. فينبغي أن يسترسل المشاهد المتفرج مع سجيته ليقدم على خيانة نفسه، ويخلّي بينها وبين إعلان مشاعر وأفكار مكبوتة، والإقرار، في دخيلته، انه هو كذلك «فعل هذا وفكر في هذا». وقد تكون هذه الخيانة «ايجابية»، فيكتشف انه لم يتيقن هذا وحده. وليست الغاية تلقين الجمهور درساً أو أمثولة، بل الاشتراك في استخلاص الدرس. وأداء أدوار شكسبيرية يعني تمضية وقت عسير في ضبط الجسد على الجمل الطويلة التي يقولها الممــــثل. وهـــذه مسألة عملية وحسية، وهي تتعلق بحركة الفك والعضلات واللعاب الذي ينبغي ازدراده في لحظات من دون أخرى. وتلــبية هذه الشروط تفترض «تنظيماً ذاتياً عضوياً»، الى استيعاب ما يُقال وفهمه. والأمران متلازمان، وفي وسع الجسد قول النص حين يحيط العقل بمعناه. فأداء (المسرحي الفرنسي جان) راسين ينزع الى السيلان، وأداء كورناي أكثر عسراً، وأما شكسبير فيتعثر في كل خطوة. * ممثل، صاحب «ثانك يو، شكسبير!»، عن «ليــكســبــريــــس» الــفــرنــسية، 4/5/2016، إعداد منال نحاس
مشاركة :