سيتم تنصيب دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة السابع والأربعين فى ٢٠ يناير ٢٠٢٥، ويُمثل فوزه إنجازًا تاريخيًا، حيث فاز المرشح الجمهورى بشكل استثنائى فى التصويت الانتخابى والشعبى معًا. وما يجعل فوز «ترامب» مختلفًا أيضًا هو أنه متهم بـ٣٤ جريمة جنائية ويواجه محاكمات فى قضايا أخرى أمام محاكم الولايات والمستوى الفيدرالى. ولم تشهد الولايات المتحدة من قبل انتخاب شخص متهم بجريمة لأعلى منصب فى البلاد. هناك عدد من الكتب صدرت منذ عام ١٩٨٧ تُنسب إلى «ترامب»، وكان موضوعها المشترك هو «ترامب» نفسه. وبالرغم من عدم وجود نظرية فكرية معينة أو أساس مفاهيمى لفكر «ترامب» فى أى من هذه الكتب؛ فإنه يمكن أن نستنتج أنه يؤمن بشدة أن كل شىء له ثمن. وخلال فترة ولايته الأولى كرئيس للولايات المتحدة، اعتمد «ترامب»، وفقًا لروايته الخاصة، بشكل كبير على التليفزيون ووسائل الإعلام التجارية كمصادر رئيسية للاطلاع على الأحداث العالمية والمحلية، بدلًا من الاعتماد على المصادر التاريخية، والمواد العلمية، أو البيانات الرسمية المؤكدة. وأكد موظفوه السابقون، مرارًا وتكرارًا، طبيعته المتغيرة والمتقلبة؛ مما جعله باستمرار هدفًا لأولئك الذين يريدون استمالته. إن فهم طريقة ومنهاج تفكير «ترامب» أمر لا يُقدر بثمن؛ نظرًا لأن قراراته كرئيس للولايات المتحدة ستكون لها عواقب داخلية وخارجية. إن منتقدى «ترامب» من بين الديمقراطيين الأمريكيين والأوروبيين يتهمونه بشدة بإضعاف النظام الدولى القائم على القواعد، والذى يزعمون أنهم يروجون له. ولكن من المفارقات العجيبة أن المعايير المزدوجة لهؤلاء المنتقدين كانت أشد سوءًا وتأثيرًا من خطابات «ترامب» النارية فى كثير من الأحيان. ومن الجدير بالذكر أن تصريحات «ترامب» المتكررة وترشيحاته تُظهر أنه فى ولايته الثانية سيبذل قصارى جهده لتنفيذ معتقداته، مع إعطاء قليل من الاهتمام للآراء الأخرى فى حزبه أو خارجه. إننى حقًا أعتقد أن «ترامب» لديه الفرصة لتحديد وتشكيل مستقبل العلاقات الدولية. ويبقى السؤال هو: ما إذا كان تأثيره ستكون له عواقب كارثية أم نتائج إيجابية تاريخية؟ فبصفته رئيسًا لولاية ثانية، فإن «ترامب» سيترك أثرًا بالغًا بالتأكيد من خلال نجاحاته وإخفاقاته وما سيفعله أو ما لن يفعله. فعلى سبيل المثال، ستؤثر سياسته «أمريكا أولًا» بشكل كبير فى الجغرافيا السياسية العالمية، وكذلك فإن تطبيقه للتعريفات الجمركية الاقتصادية على الأصدقاء والأعداء على حد سواء، ستكون له تداعيات خطرة على نظام السوق الحرة والمؤسسات الدولية التى طالما روّج لها الغرب. ويُعد موقف «ترامب» من تغير المناخ مهددًا للجهود الهشة بالفعل والهادفة لتحقيق توافق عالمى فى هذا الأمر. إضافة إلى ذلك، فإن قضيتين مُلحتين، هما الصراع فى أوكرانيا والشرق الأوسط، سيكون لهما تأثير خاص فى خطط وسياسات «ترامب». نهج غير عادى: من منظور كلى، يمكن وصف نهج «ترامب» للشؤون الدولية بعدة نقاط رئيسية. فمن ناحية، يمكن القول إن «ترامب» يعطى الأولوية للجانب الاقتصادى مثل العائد الاقتصادى والتكلفة، بدلًا من التركيز على الجوانب السياسية أو الاستراتيجية المرتبطة بالجغرافيا. وقد اقترن هذا النهج بسياسة «أمريكا أولًا» الانعزالية، التى اتسمت بالمشاركة العسكرية العالمية المقيدة. ونتيجة لذلك يمكن وصف نهج «ترامب» بأنه قصير الأجل وتعاملى (متعلق بالتجارة) بطبيعته. ومن ناحية أخرى، يتسم أسلوب «ترامب» فى العلاقات الدولية بعقد الصفقات البراجماتية، والتى تركز على مفهوم الفائز والخاسر بدلًا من الاعتبارات الأخلاقية للصواب والخطأ. كذلك لا يُعد «ترامب» من دعاة الحرب؛ بل هو من أنصار عقد الصفقات. وفى مجال العلاقات الدولية، غالبًا ما تتم مساواة هذا النهج بالدبلوماسية؛ ومع ذلك فإن أسلوب «ترامب» شخصى للغاية، فهو لا يعتمد على المؤسسات الدبلوماسية لتحقيق الأهداف. وفى حين يظل هذا النهج مُفضلًا على الاستخدام المفرط للقوة، فإن ضعفه يكمن فى ميل «ترامب» إلى تفضيل الأقوياء والمسيطرين بشكل ساخر وفج على حساب حقوق الآخرين. توقعات حرب أوكرانيا: فيما يتعلق بأوكرانيا، كتب المرشح لمستشار الأمن القومى فى إدارة «ترامب»، مايك والتز، مؤخرًا، أن «القتال طالما استمر فى حرب استنزاف ضد قوة أكبر هو وصفة للفشل». ويرى بعض المقربين من «ترامب» أن المساعدات المقدمة لأوكرانيا يجب أن تكون مشروطة ببدء كييف محادثات سلام مع روسيا، وقد اقترحوا إجراء مفاوضات على أساس الخطوط الأمامية الحالية. إضافة إلى ذلك، فهم يقترحون تأخير انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسى «الناتو»، والذى ترغب كييف فيه بشدة. وهناك تعليقات منتشرة حول حاجة كييف إلى التخفيف من توقعاتها بشأن انسحاب روسيا من الأراضى التى تسيطر عليها فى شرقى أوكرانيا. ويبدو أن نهج «ترامب» فيما يتعلق بهذه القضية يركز على ضمان أمن أوكرانيا، وليس الحفاظ على سلامة أراضيها. وقد كان «ترامب» صريحًا فى رأيه بأن أعضاء «الناتو» لم يقوموا بتحمل مسؤولياتهم كما ينبغى فى الحلف؛ ما أثار قلقًا كبيرًا بين الأعضاء بشأن كيفية تأثير ذلك فى فاعلية الردع الذى يُفترض أن يوفره «الناتو» ضد القادة المُعادين له. وفى ضوء هذه التطورات، تجدر الإشارة إلى أن المستشار الألمانى، أولاف شولتس، قد قام فى ١٥ نوفمبر الماضى بإجراء مكالمة هاتفية طويلة مع الرئيس الروسى بوتين. الموقف من الشرق الأوسط: إلى جانب ادعائه بأنه سيُنهى حرب أوكرانيا فى يوم واحد، فقد وعد «ترامب» أيضًا بأنه سيقوم بإحلال السلام فى الشرق الأوسط. إن «ترامب»، الذى ينسجم بقوة مع السياسات الإسرائيلية، لم ينخرط من قبل فى حوار مع القيادة الفلسطينية، وإن كان يحافظ على علاقات قوية مع العديد من القادة العرب. ولم يُعطِ رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، الموافقة الرسمية على حل الدولتين، حتى بشروط صفقة «ترامب». وبعد المآسى فى قطاع غزة سيكون توقيع اتفاقية بين السعودية وإسرائيل هدفًا صعبًا، حيث أعلنت المملكة صراحةً أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة هو شرط أساسى للسلام مع إسرائيل. وقد أعرب «ترامب» بالفعل عن رغبته فى إنهاء العنف فى قطاع غزة ولبنان، قبل تنصيبه رسميًا. ولكن تحقيق ذلك، وإن كان أولوية مهمة للإدارة الأمريكية القادمة، سيتطلب عملًا متوازنًا ودقيقًا. وهذا التوازن يجب أن يشمل كلًا من اليمين الإسرائيلى، وحركة حماس، والسلطة الفلسطينية، وإيران، والسعودية، فضلًا عن مصر والأردن وسوريا، وغيرهم من الفاعلين فى المنطقة الذين تتعرض مصالحهم الوطنية للخطر. إن الوضع الحالى يطرح نموذجًا هو إما كل شىء أو لا شىء، مما يثير التساؤل حول ما إذا كان «ترامب» سيسعى للتوصل إلى «صفقة كبرى» وإغلاق كامل لملف الصراع فى الشرق الأوسط، أم سيختار التركيز على الإنجازات المحدودة التى تهدف إلى إنهاء الأعمال العدائية مع تقديمها على أنها «صفقات كبرى». ويمكن أن يكون اهتمام الرئيس الأمريكى الجديد بعقد صفقة مثيرًا للاهتمام، وإذا كانت ناجحة ستكون تاريخية؛ ومع ذلك فإن ميل «ترامب» إلى تجاهل قيم الصواب والخطأ لصالح الثروة والقوة، قد يأتى بتكلفة كبيرة على حقوق الفلسطينيين والعرب باعتبارهم الأطراف المُحتلة. وفى الختام، يمكن أن نتوقع، استنادًا إلى ممارسات «ترامب» السابقة فى الشرق الأوسط وتصريحاته بشأن أوكرانيا، أن تكون ما تُسمى «صفقة القرن الثانية» التى يقترحها شاملة لمساحة أقل بكثير من أراضى غزة والضفة الغربية؛ وهو ما يتماشى مع الرفض الإسرائيلى لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، مع تمكين إسرائيل من السيطرة على أجزاء كبيرة من الضفة الغربية. وفى نفس الوقت، قد يشجع إنشاء دولة فلسطينية رمزية الدول العربية على المساعدة فى إدارة شؤون غزة وتسهيل إقامة علاقات مع إسرائيل فى المنطقة. وإذا ما نجح «ترامب» فى إنهاء الصراعات وجلب السلام الشرعى لكل من أوكرانيا والصراع العربى- الإسرائيلى، فسيكون قد أحسن استخدام الدبلوماسية باعتبارها الأداة الأكثر فاعلية لحل النزاعات. وعلى العكس من ذلك؛ إذا فشلت جهوده غير التقليدية، القائمة على إعطاء الأولوية لتوازنات القوى على حساب الحقوق المشروعة؛ فإنه يخاطر بتدمير مبادئ القانون الدولى التى تحكم النزاعات الإقليمية والصراعات الوطنية. ومثل هذا السيناريو قد تكون له عواقب وخيمة على النظام العالمى والعلاقات الدولية لأجيال قادمة. والوقت وحده هو الذى سيخبرنا أى سيناريو سوف يتحقق.
مشاركة :