الشرطة تتظاهر في الشارع! هذا ما حدث قبل أيام في باريس، واختارت لها نقابات الشرطة «ساحة الجمهورية»، حيث تبلورت منذ أكثر من شهرين حركة احتجاجية جديدة، «يقظة الليل»، تنصب كل ليلة خيام المعتصمين ضد قانون العمل الجديد. وهناك تنطلق عادة تظاهرات العمال والطلاب والشبيبة العاطلة من العمل (21 في المئة) أو التي تمارس أعمالاً هشة (كل أشكال العقود الموقتة، وهي باتت غالبة)، وأكبرها قبل أيام، كان بمناسبة الأول من أيار (مايو). وهذا التلاقي بين الحركة الطالبية والنقابات العمالية مستجد مقارنة بالحال قبل عقود، وربما لم يُر له مثيل منذ أيار 1968 وانتفاضته الشهيرة. كاد الصدام يقع بين التظاهرتين. لكن الطابع الأبرز لما يجري منذ أسابيع هو تصاعد الأعمال العنفية. الشرطة لا تتردد في استخدام غزير للغاز المسيل للدموع وطلقات فلاش بول والهراوات وبعضها مكهرب، ما تسبب في وقوع جرحى وقلع عين أحد المتظاهرين في مدينة رين. ويدعم هذا العنف التوقيفات خلال التظاهرات أو في الشوارع الخلفية أو بعد انقضائها، وقد تفاخر بها وزير الداخلية الحالي، وهو من الحزب الاشتراكي الحاكم (قال أمام البرلمان، بعدما أعلن عن مساندته تظاهرة البوليس التي جرت تحت شعار «ضد كراهية الشرطة»، أن حكومته ليست «متهاونة»، وأن هناك 1300 توقيف خلال الشهرين الماضيين منها 800 بمذكرات و51 حكماً صدر حتى الآن)، كما تفيد في تعزيزه حالة الطوارئ المعلنة، فتصدر مذكرات بـ «منع إقامة» بعض الأشخاص في أماكن التظاهر، ردتها محاكم القضاء المستعجل باعتبار التظاهر حقاً أساسياً للأفراد. وقد أيدت تظاهرة الشرطة تلك شخصيات سياسية من الاشتراكي واليمين، وصولاً إلى حضور بعضها إلى الساحة. مقابل ذلك يُلحظ تصاعد في ميل بعض المتظاهرين هم أنفسهم إلى العنف، انتهى أخيراً إلى إحراق سيارة للشرطة كان أفرادها في داخلها وأنقذوا في اللحظة الأخيرة! محرك موجة التظاهرات العارمة قانون العمل الجديد الذي بات يعرف باسم الوزيرة الشابة، مريام الخمري التي لا تجيد بالطبع الدفاع عنه كما ينبغي، فيتولى ذلك مباشرة رئيس الوزراء مانويل فالس الذي قدّمه محذّراً من أنه «لا يريد تعديلاً طفيفاً على شروط العمل، وإنما ثورة». وهو قرر تمريره بالمادة 3 .49 من دستور 1958، حين تبيّن لحكومته أنه لن يحظى بتصويت البرلمان لمصلحته، متجاوزاً للمرة الرابعة خلال سنتين اللعبة الديموقراطية، وهو رقم قياسي على رغم أن الاشتراكيين لجأوا إليه 52 مرة منذ ولادته (من أصل 84 مرة). وهذا ما كرس ربما أكبر انشقاق في هذا الحزب، حيث صوت لمصلحة مذكرة الحجب التي تقدم بها نواب اليمين بعض نواب الاشتراكي والشيوعي والخضر. وهي لو مرت (ولم يكن متوقعاً مرورها) لأسقطت الحكومة، ما دفع معظم النواب اليساريين «المنشقين» إلى الامتناع عن تأييدها، ووصل الأمر بهم إلى محاولة تنظيم مذكرة حجب خاصة بهم، لم تنل الحد اللازم من الأصوات حتى تُقدَّم. وبالطبع، لا فالس ولا الرئيس هولاند يخترعان جديداً إذ يتوليان القفز خطوة (كبيرة جداً، يصفها بعض الاقتصاديين الفرنسيين بـ «أكبر ثورة مضادة في المئة سنة الماضية») نحو مزيد من «تحرير» الاقتصاد والقانون من أية قيود تضبط حركة رأس المال (الاستثمار والبنوك) وتنظم عقود العمل (وما يتبعها لجهة مدته وضماناته والصرف منه والتقديمات الاجتماعية الملازمة له الخ...). كان الحزب الاشتراكي بطل الإجراءات النيوليبرالية الكبرى التي اتُخذت في العقود الثلاثة الماضية. بدأها الرئيس فرنسوا ميتران عقب وصوله في أيار 1981. فمنذ 1983 «أمم» البنوك الذي عنى بالدرجة الأولى أن تتولى الدولة تجميعها وصهرها لتتحول إلى أقطاب كبرى، وأن تحدّثها بأموال الخزينة العامة (وليس شيئاً آخر، وهو ما تم التراجع عنه حين أنجزت المهمة!)، ثم وبالأخص في 1986 مع إقرار قانون «إلغاء القيود المالية» الذي شرّع أبواب فرنسا للرأسمال الأجنبي المتعدد الجنسية. وهو تاريخ مهم رمزياً لانسجامه مع إجراءات مارغريت ثاتشر في بريطانيا في السنة نفسها. وقد أقدم عليه بحجة «التأقلم مع الحداثة»، مع تركز الظاهرة في العالم. ولحقت به سلسلة تدابير وقوانين في كل المجالات توالت عليها حكومات اليمين واليسار النيوليبرالي، ودائماً تحت عنوان «تغيير وجهة منحنى البطالة» التي لم تتوقف مذاك عن... التصاعد. وقد وصف أحد منظري رابطة «ميديف» الفرنسية، وهي الإطار التنظيمي لأرباب العمل، القانون الجديد بأنه «إقدام ألترا - ليبرالي شجاع»، وواضح أنه يقضي على آخر ملامح «دولة الرعاية» التي لطالما تفاخرت فرنسا بأنها ممثلها الأقدم والأعمق. كل هذا، ولا يزال ينقص المشهد موقف «الطبقات الشعبية» التي لا يمكن اختصار تمثيلها بالنقابات في فرنسا (الواهنة رغم كل شيء) ولا بأحزاب اليسار (فهو إما نيوليبرالي حيث الاتجاه الطاغي في الحزب الاشتراكي، وإما منهار وعقيم ومفوّت كالحزب الشيوعي، أو يقتصر على عُصب مغلقة من أقصى اليسار تردد إيديولوجيا متشددة أقرب إلى الشعارات، لكن بلا تصور فعلي أو برنامج مضاد، بل بلا صلة بالناس... ما لا يمنع وجود ظواهر فكرية مثيرة)، ولا بالشبيبة والطلاب، على رغم أن هذه الحال تخص حياتهم بالدرجة الأولى. والفرنسيون «الأصلاء» في الأحياء الفقيرة من المدن أو في الأرياف راحوا يؤيدون حزب «الجبهة الوطنية» شبه الفاشي الذي يستعيد أسس النظريات اليسارية الراديكالية، بل أسماء منظريها (بلا أي عقد)، وتوجّه تفسيراتها للحال المزرية إلى «الانفتاح النيوليبرالي» (أوروبا والعولمة)، وإلى... المهاجرين الذين «يسرقون العمل والتقديمات» من الفرنسيين. وأما ما يشكل النسبة الأكبر من الطبقات الشعبية في فرنسا اليوم، فيقبع في ضواحي المدن الكبرى، حيث يعيش بالدرجة الأولى الفرنسيون المتحدرون من الهجرة المغاربية والأفريقية السوداء (المستعمرات السابقة) الذين جيء بأجدادهم للعمل في المناجم وفي إعمار البلاد بعد كلٍ من الحربين العالميتين، وكعمال في المصانع الكبرى وفي الحقول. وهؤلاء يقفون خارج دائرة الفعل السياسي الفرنسي، بفضل آلية اقصائية معقدة، توجتها شعارات وإجراءات تَطلب اللائيكية ثم «محاربة الإرهاب الإسلامي»، وما نتج منهما من طغيان لإسلاموفوبيا فعلية في المجتمع الفرنسي ومن... قطيعة بين عالمين.
مشاركة :