هناك أشخاص تلتقيهم وتصاب بعد ذلك بالإحباط، وآخرون يشكل لقاؤك بهم نبعاً من الإلهام والقوة التي يحيطونك بها، ومن هؤلاء الفنان التشكيلي اللبناني نديم فتفت الذي اختبر وما زال تجربة فنية ثرية تستحق تسليط الضوء عليها، فهو شخص عصامي، حوّل ضعفه إلى قوة، واستبدل الشعور بالمرارة لتحقيق الإنجازات، وأبدع رسومات جال بها الكثير من دول العالم. ولد فتفت في بلدة الضنية شمالي لبنان، وبدأ نشاطه الفني في مطلع عام 1970 ليشارك بعدها في عشرات المعارض الشخصية والمشتركة داخل لبنان وخارجها، كما أسس وانضم لعضوية العديد من المؤسسات الثقافية. عن تجربته الفنية وأسلوبه المميز ورحلته مع الفن التشكيلي كان لنا معه هذا الحوار: } لنبدأ من التحضيرات التي تقوم بها لإقامة معرض فني في سلطنة عمان سيكون الأول لك، حدثنا عنه وعن الفكرة التي سيقوم عليها؟ - هذه ليست زيارتي الأولى لسلطنة عمان التي أحبها كثيرا، لكن معرضي فيها سيكون الأول، وسيضم مجموعة من اللوحات التي تجعلها ثيمة لونية واحدة، فعادة ما تكون الألوان هي ثيمة معارضي وليست الأفكار، والألوان عندي غالبا ما تكون متجانسة، وتبدو لوحاتي كأنها عائلة واحدة، من حيث الحركية التشكيلية واللونية. فأنا لا أحب فكرة تقييد المتلقي بموضوع واحد. } هل اطلعت على الحركة التشكيلية العمانية؟ - طبعاً اطلعت عليها، وقد فوجئت بقوتها وبكونها تجمع مزيجاً جميلاً بين الشرق والغرب، لكن، ينقص هذه التجربة مزيد من الانفتاح والحرية في اختيار الموضوعات، وعدم الخوف من تشكيل المجسمات، لأن الفنان عندما يترك العنان لحريته ولمخيلته فإنه يستطيع أن يبدع بشكل أفضل. لكن من الناحية التركيبية والفنية، وفكرة بناء اللوحة، فهم ناجحون جداً. } أسلوبك يمزج بين السريالية والتجريد، ولا يترك مساحات بيضاء في اللوحة، فتكون مملوءة بالقصص والألوان، حدثنا عن هذا الجانب؟ - لوحتي فيها كلام كثير، ومن الممكن استخراج أفكار 3 لوحات من كل لوحة من أعمالي، وهذا نتيجة الكم الكبير من التفكير الداخلي الذي ينتابني، ورغبة مني بأن أعبر بكل الطروحات فتخرج اللوحة متخمة بالأفكار. كانت بدايتي كلاسيكية مثل كل الفنانين، ثم تحولت إلى السيريالية، وأخيراً انتقلت إلى الأسلوب التجريدي، وهو ما أفهمه كسياق لوني أو حركي ليس عبثياً على الإطلاق، فالتجريد هو قمة الرقي بالفنون، لأنه يترك للناظر حرية أن يكتشف اللوحة بطريقته الخاصة. وحالياً أخرج من السيريالية، وأدخل في التجريد بشكل صاف جداً، وأريد أن تحمل لوحاتي رائحة السريالية مع أساس تجريدي عميق. } يصنفك النقاد كفنان غزير الإنتاج ولديك كم كبير من الأعمال الفنية سنوياً؟ - نعم، أنا معروف بسرعتي في إنتاج الأعمال الفنية، وأنا حريص في كل سنة على إنجاز 60 إلى 70 لوحة، وليس لدي مشكلة في أن تباع اللوحة، فأنا أنتظر ستة أشهر، إذا لم يقتنها أحد، فإنني أهديها لشخص ما، ولا أتركها في المرسم، لأنه لدي قناعة بأن اللوحة حالما تخرج من بين يدي الفنان، فإنها لا تعود ملكه وتصبح ملك العامة، وهو ما يسهم بوصول رسالة الفنان الفكرية إلى الناس، وأريد التأكيد أنه ورغم غزارتي، فإنني لست فناناً تجارياً، لأن اللوحة تأخذ وقتها الكافي معي، أستطيع أن أصف علاقتي بالرسم، بأنني وهو شريكان، فأنا شغوف به، وأعيش بالفن وللفن، ولذلك تخرج اللوحة من بين يدي بسرعة وبطريقة مدروسة. } حدثنا قليلاً عن بداية اتجاهك للفن وكيف أثر مرضك في تكوينك الفني؟ - أصابني شلل الأطفال بعمر 3 سنوات، ومررت خلال هذه التجربة بمخاض نفسي صعب، ولكنني تجاوزت هذه المشاعر في وقت قياسي أذهل الجميع، وتقبلت حالتي واعتبرتها إرادة إلهية، وأنني يجب ألا أتدخل بإرادة الخالق، هذه الإرادة حولتني إلى إنسان قوي، تحوّل ضعف جسدي إلى قوة ملهمة للآخرين، الذين أصبحوا يستمدون القوة من وجودي بقربهم أو في حياتهم بطريقة ما. هذه القوة والإرادة ساعدتني في الرسم، كان عمري 13 سنة عندما اكتشفت أنني أستطيع الرسم، وأتمتع بالموهبة، ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم أمضيت عمري كله بالفن، وسافرت إلى فرنسا لأربع سنوات، تبلورت خلالها شخصيتي الفنية من خلال تجاربي مع الفنانين الفرنسيين. } أنت غير أكاديمي، هل تعتقد أن الدراسة الأكاديمية قد تصنع فناناً ناجحاً؟ - التعليم الأكاديمي مهم جداً لإتقان أدبيات الرسم، ولكنه ليس من الضروري أن ينتج فناناً ناجحاً، فذلك يتعلق بالموهبة والإبداع، أنا تعلمت الرسم من خلال التجربة كسفري إلى فرنسا، ولقائي بفنانين فرنسيين، وتعرفي إلى تجاربهم، وأيضا من خلال توجيهات أشخاص مروا في حياتي، ما جعلني أصل لمستوى مقبول من الثقافة والإبداع الفني، وإصراري على أن أكتسب هذا العلم مقابل أي ثمن. } تحضر المرأة بقوة في أعمالك الفنية؟ - لولا وجود المرأة في حياتي، لم أكن سأتمكن من الرسم، ولا أستطيع الاستمرار بحياتي إن لم يكن فيها امرأة، لأن المرأة هي المجتمع كله وليس نصفه، ووجودها في حياتي أعطاني ثقة كبيرة بنفسي، ومكنني من أن أصبح الفنان الذي أنا عليه اليوم، كما أن المرأة سيطرت على أعمالي لفترة طويلة وما زالت، فهي بشخصيتها المميزة مادة تعبيرية غنية عن الحب أو السلام أو الحرب أو الزواج، أيضا الحصان في أعمالي يرمز أحياناً للمرأة بتناقضاتها وعنفوانها وجمالها. عموما هناك الكثير من الرموز الأخرى التي أستخدمها في أعمالي الفنية ومنها الفراشات والطيور. } هل تركت الأزمات الراهنة والحروب التي تعيشها الدول العربية أثراً في أعمالك؟ - الوضع العربي والتشنجات التي تحصل فيه، تترك أثرها في العمل الفني بشكل غير ممغنط أي دون أن يشعر الفنان، وذلك من خلال نوعية إنتاجه وحركية اللون، لأن الفنان مثل الطبيعة يتأثر بما يحصل حوله، ومن الطبيعي أن ينعكس النزيف الذي يحدث في العالم العربي تلقائياً على اللوحة، وإن بشكله غير المباشر ولكن أحاول قدر الإمكان أن تكون التعابير التي أضعها على اللوحة غير قاسية، لأن المتلقي برأيي غير مستعد لأن يتلقى منظراً يزعجه، وأنا أحاول التحايل على ذلك بأن أقدم عملاً فيه قساوة بالفكرة لكنه يحقق السلاسة بتلقي الرؤية الفنية. } ماذا عن النحت، كيف بدأت حكايتك معه؟ - اكتشفت شغفي بالنحت من خلال مهرجان كبير أقيم في بيروت اسمه مهرجان الحصاد ووقتها ربحت الجائزة عن أفضل عمل فني، وعندها أغواني النحت وسلكت طريقه وبدأت أشكل المنحوتات الطينية والسيراميك من القطع المتوسطة والصغيرة. النحت فن جميل وملهم بالنسبة لي، وقد قمت بإنتاج منحوتات هندسية صغيرة لاقت أصداء طيبة. } كيف تقيّم الحركة الفنية التشكيلية في لبنان؟ - هي ناجحة جداً، وكانت وزارة الثقافة تقيم في كل عام مهرجاناً باسم مهرجان الربيع الذي يشارك فيه كل التشكيليين اللبنانيين، ولكن منذ أن بدأت المشكلات العربية التي أثرت في لبنان تقلصت الجهود الثقافية وأصبح هناك مبادرات فردية فقط. لكن لبنان ما زال لديه حركة تشكيلية ضخمة من خلال كم المعارض الخاصة الضخمة الموجودة، والتي تقدم أعمالا مهمة تتميز بجرأة في الطرح والأفكار التي يرغب بها الفنان وهذا يعطي مساحة أكبر من الإبداع. } ماذا عن الحركة الفنية التشكيلية في دولة الإمارات؟ - الحركة التشكيلية الإماراتية ناجحة جدا، وقد تأثرت بالانفتاح الذي تعيشه الإمارات، فأصبح الناس هنا، يشبهون اللبنانيين بطريقة إنتاج اللوحات ، ولكنهم ظلوا محافظين على الطابع التراثي في أعمالهم. غير أن هناك موجة من الفنانين الجدد الذين تخوض أعمالهم في تجارب معاصرة تشبه التجارب الغربية، هؤلاء نجحوا بالدمج بين الحضارتين الشرقية والغربية في أسلوبهم الفني والنتيجة أكثر من رائعة.
مشاركة :