المصريون جاهزون للاصطفاف الوطني، كلٌّ وفق مفهومه للاصطفاف وتعريفه للوطنية. هذا ما تؤكده المناقشات الاجتماعية، والكتابات العنكبوتية، واللقاءات التلفزيونية، والتفسيرات التكتيكية بما في ذلك التحليلات الاستراتيجية والتكهنات الإعلامية. وعلى رغم أن كلاً يغني على اصطفافه، لكن تظل العبارة تؤكد عودتها لتتصدر المشهد وتتمكن من الحدث وتهيمن على المطلب الذي بات مطلب الغالبية. غالبية المصريين تشعر هذه الأيام بضرورة الالتفات إلى شؤونهم المبعثرة وهمومهم المؤجلة وضغوطهم المتزايدة، حيث تتعالى أصوات منطقية تؤكد توحيد الصفوف المصرية وتعميق الميول الوطنية ونبذ الخلافات التي لا طائل منها، غير إهدار الوقت على فايسبوك، أو تضييع الجهد على سلالم النقابة، أو الدوران في حلقات مفرغة حول من تسبب في ماذا لماذا. وعلى رغم علو هذه النبرة الإيجابية في الدوائر المصرية حيث الهموم الحقيقية والقياسات الفعلية لتوجهات الرأي العام، إلا أن المفاجأة تكمن في أن اصطفاف هؤلاء يبدو لأولئك انتهازية، وتوحد أولئك يفسره هؤلاء بأنه استعداد لهجمة عنترية، ومجموعات هنا وهناك ترى أن هؤلاء وأولئك ما زالوا بعيدين عن الخط المنشود لا سيما بعدما نبذ هؤلاء الثورية واحتكر أولئك الشرعية والشريعة، ونسي الجميع ضرورة الاصطفاف الوطني حول المطالب الجذرية للثورة المصرية. الثورة المصرية الواقعة في كانون ثاني (يناير) 2011 تبدو هذه الأيام محور مطلب الاصطفاف الوطني، تارة عبر المجاهرة بضرورة العودة لمطالبها، وأخرى بالتذكرة بمشاركة فصيل بعينه في الجزء الثاني من فاعلياتها، وتارة بنسيان هذه وتجاهل تلك وإعادة ترتيب الأولويات «لأننا هرمنا». «لقد هرمنا منذ ثورة يناير، والحل الوحيد هو الاصطفاف الوطني حول القيادة والحكومة لنعبر الأزمات الداخلية الخارجية المتواترة. وبعد المرور والتمكن من رفاهية المطالبة بالتغيير والمشاركة بالتنظير والاكتفاء بالتحليل انتظاراً لأن تهبط علينا حلول سماوية يمكن أن نتحدث عن أشكال أخرى من الاصطفاف وإدماج المعارضين والتحدث إلى المنشقين». الكلمات التي سطرها أحدهم على موقع برنامج تلفزيوني شهير تطرق في أحد فقراته إلى اصطفاف وطني يحوي المعارضين بأنواعهم حظيت بعدد من الـ «لايك» فاقت الفقرة نفسها. ليس هذا فقط، بل أن تعليقات المشاهدين على الفقرة التي استضافت كاتباً صحافياً يعمل في جريدة يومية يصنفها البعض باعتبارها تميل إلى المعارضة، وتسمح بهامش من الممانعة، ولا تحجر على أعمدة تحوي قدراً من المجابهة دارت في دوائر قوامها «ضرورة الإقصاء» و «حتمية المقاطعة» مع السؤال الاستنكاري عن الغاية من الاستضافة وكأن المعارضة والمجابهة أصبحتا من الموبقات الوطنية. مفهوم الوطنية الآخذ في التبلور في هذه الآونة في الوعي المصري الشعبي يميل إلى توحيد المواقف والأهواء والآراء والانتماءات مع عمل «بلوك» إجباري على كل ما من شأنه أن يثير بلبلة فكرية أو قلاقل شعبية أو حتى أسئلة خارج السياقات المحددة سلفاً. وتتراوح طرق تعبير المواطنين العاديين عن هذا المفهوم بعبارات تطرح نفسها على هيئة «مش وقت خلافات» أو «أولويتنا الحفاظ على الوطن» أو «لا نملك رفاهية الاختلاف» أو «من اختلف معنا فهو ليس منا». أما المواطنون غير العاديين المنتمين لهذه الفئة، مثل بعض المذيعين أو الكتاب الصحافيين أو الناشطين العنكبوتيين، فلا يألون جهداً في شحن المشاعر وحشد الطاقات ودفع التصرفات في اتجاه «مصر أولاً». أولوية مصر لقطاع عريض من المصريين تعبر عن نفسها في صورة رفض كامل لكل من يغرد خارج السرب، فلا الانتقادات مسموعة أو الاعتراضات مقبولة. لكنها تظل مقبولة، بل مطلوبة ومحمودة لدى فئة ثورية ترى في «الاصطفاف الوطني» بمفهومه الشعبي السائد حالياً أشبه بأنظمة الستينات الثورية وأيديولوجيات لينين الشيوعية ومفاهيم الشعوب الانهزامية. هؤلاء يرفعون راية الاصطفاف كذلك، لكنه اصطفاف بهدف الالتفاف حول مطالب الثورة الأصلية واستعادة الروح الثورية وحجب الميول غير الثورية. ميول شبيهة تتمكن من أوصال المتعاطفين من جماعات الإسلام السياسي حيث تعلو بين الحين والآخر صيحات داعية إلى الاصطفاف الوطني لتوحيد الصف الثوري وإنقاذ البلاد من حكم «العسكر» مع تذكرة بانضمام الإسلاميين إلى صفوف الثوريين لعل الحلم الثوري يتجدد والقفز الإخواني يتصدر في ظل اصطفاف وطني يخلو من الانهزاميين والخانعين. إثنتان من «الانهزاميين والخانعين» من المارين أمام سلم نقابة الصحافيين أول من أمس، بينما كانت هناك وقفة حداد لتأبين أرواح ضحايا الطائرة المصرية، قالتا للواقفين: «ياريت المرة المقبلة تعملوا الوقفة من أجل العيش واللحمة». وحين علمتا أن الوقفة ليست احتجاجية بل تأبينية، التزمتا الصمت. صمت الشاشات الفضائية الحالي، الذي يتأرجح بين مطالبات عنترية فجائية باصطفاف وطني بمعناه الإقصائي لكل من اختلفت نبرة صوته أو تراوحت دقة قلبه بعيداً عن الدقة الجماعية لقلب الرجل الواحد، وأخرى تطالب بسعة الصدر ورجاحة العقل لقبول الرأي والرأي الآخر مع عدم استباق التخوين أو افتراض الخداع، ينبئ بتغيير قريب مرتقب. فبينما يراقب المراقبون ويتكهن المتكهنون بما سيؤول إليه المشهد الفضائي المصري في ضوء شراء رجل الأعمال المصري أحمد أبو هشيمة قناة «أون تي في» وبعدها بأيام إعلان شراكة كاملة بين شبكتي «النهار» و»سي بي سي» التلفزيونيتين، يتوقع المتوقعون أن يؤدي ذلك إلى شكل من أشكال التوحد الإعلامي «الوطني»، وإن ظلت ملامحه ومعالمه في علم القائمين على الدمج والشراكة والاصطفاف.
مشاركة :