من العسير ألا يشعر المرء بالدوخة جراء فيض الأنشطة الديبلوماسية التي تعاقبت منذ مطلع السنة ونجمت عن الملف السوري: فمن هدنة الى مفاوضات، ومن خرق الهدنة الى تعليق المفاوضات، ومن تجديد الهدنة الى احتمال استئناف المفاوضات... تتتابع فصول متقطعة من غير منطق ظاهر. وكان آخر فصل منها (موقتاً من غير ريب) اجتماع مجموعة الدعم الدولية لسورية بفيينا، في 17 أيار (مايو). وحاولت المجموعة تثبيت وقف النار المترنح اليوم. والاعتقاد الأوروبي الغالب يفترض أن «لا حل عسكرياً للنزاع في سورية». الذي لم يكف منذ اندلاعه عن إحباط يقين الأطراف وحساباتها، لكنه لم يكذب هذا الاعتقاد الصحيح الذي تنهض عليه مهمة المبعوث الدولي الخاص دي ميستورا. فكفة قوة النار الراجحة التي يتمتع بها النظام يعوضها خزان اليد العاملة والمقاتلة الذي لا ينضب كما يبدو ويغذي الانتفاضة. وفي وسع هذه ان تتوكأ على النفور المطلق الذي يوحيه بشار الأسد في أوساط الطائفة السنية، أي الغالبية السورية. وإلى «توازن الضعف»، على ما يجوز القول، تضاف جهود الاحتواء المتقطعة والفعلية في آن التي تبذلها الولايات المتحدة وروسيا. فمنذ إعلان انسحاب قواتها الجزئي من سورية، منتصف آذار (مارس)، تضطلع موسكو بدور يفوق التباسه الدور الذي اضطلعت به مطلع السنة (2016). والقرينة على هذا الالتباس هي المعارك التي خاضها النظام والمعارضة في الأسابيع الأخيرة في خان طومان، جنوب حلب. وتعود مكانة البلدة الزراعية العادية الى موقعها على الطريق السريع الذي يربط بين معقلي مقاتلي المعارضة في الشمال السوري: شرق حلب وإدلب. وسيطرت قوات المعارضة على هذه المنطقة طوال سنوات. لكنها سقطت أواخر 2015، في أيدي القوات النظامية بعد هجوم واسع برعاية مظلة عسكرية روسية وتدفق امدادات من المقاتلين الشيعة الجدد، الايرانيين والافغان. وحرمت الهزيمة ثوار حلب من عمق استراتيجي لا غنى لهم عنه في دفاعهم عن مواقعهم. لكن «جيش الفتح»، المؤلف من تحالف مجموعات معظمها إسلامية وتقوده «جبهة النصرة»، استعاد مطلع أيار (مايو)، خان طومان، في غياب ملحوظ ومدهش للطيران الحربي الروسي. وقبلها بأسابيع قليلة، استعاد الثوار تلة العيس، الى الجنوب من خان طومان، من غير ان يتدخل طيران موسكو. هذا الاستنكاف قد يُفهم شكلاً من اشكال الضغط يمارسه الكرملين على بشار الاسد. فموسكو تعلم أن سقوط شرق حلب يعني حتماً توجيه ضربة قاضية الى العملية التفاوضية، وبينما كان الهجوم الذي تشنه القوات المشتركة الروسية – السورية ينذر في منتصف آذار بسحق المعارضة، عاد النزاع الى سيرة حرب استنزاف تتناوبها عمليات تقدم وتراجع لا تستقر على حال، مسارحها أراضٍ من كيلومترات مربعة قليلة. وما إن يغيب الغطاء الروسي الذي يعوض افتقار النظام الى عديد الجنود حتى تضطر دمشق الى التراجع أمام الهجوم المضاد الذي يشنه اعداؤها. ويواجه هؤلاء المشكلات والقيود التي تواجهها دمشق. فهم تلقوا في الربيع أحمالاً جديدة من الأسلحة. لكن واشنطن تتولى مع موسكو التحكيم في ميدان الحرب، وتحرص على ألا ترجح شحنات السلاح كفة المعارضة على نحو قاطع. وهي راقبت بعين مستنكرة هجوم المعارضة في ربيع 2015 الذي رعته أنقرة، وأتاح لـ «جيش الفتح» طرد قوات النظام من محافظة إدلب. وعجز كلا الطرفين عن إحراز نصر حاسم لا يحملهما على التفاوض المجدي. فالمعارضة، في رعاية دول عربية وأوروبية، تتمسك بشرط تخلي الأسد عن السلطة، وهو شرط لا تملك القوة العسكرية التي تخولها فرضه. ويزدري النظام كل اقتراح يُخرج الاسد من المرحلة الانتقالية، ويؤيد راعيه الإيراني هذا الموقف، باسم سراب استعادة السيطرة على الاراضي التي خسرها. وصيغتا النكران تؤديان، على رغم جهود دي ميستورا، الى فشل المفاوضات الأكيد. وقد يفضي تطوران محتملان الى كسر الجمود: الأول هو مبادرة موسكو الى الضغط على الديكتاتور السوري. فهي لم تكتم بَرَمها بتعنت دمشق في أكثر من مناسبة. وآخر دليل على هذا التبرُّم قول وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، ان «الأسد ليس حليفنا»، وهي لا تسانده «إلا في إطار مكافحة الإرهاب». لكن التخلي الروسي عن بشار الأسد في معرض صفقة كبيرة بين بوتين وأوباما، او خليفته، لا يستتبع حكماً تخلي طهران عنه. ومفتاح القصر الرئاسي بدمشق في يد طهران قبل ان يكون في يد موسكو. التطور الثاني هو تغيير دول الخليج وتركيا موقفها من النزاع، وحبسها السلاح عن المعارضة استجابة لدعوة أميركية ملحة. وقد ينجم عن هذا التغيير انهيار الانتفاضة في غضون أشهر قليلة. لكن الظرف السياسي الذي يشهد تعاظمَ انعطاف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نحو الحكم المتـــسلط، والحذر الخليجي من سياسة واشنطن، الى تفاقم الخصومة بين البلدان العربية وإيران، تستبعد احتمال مثل هذا التطور. واليوم، يبدو الحل السياسي بعيداً بمقدار بعد الحل العــسكري. فلا مناص من الحرب في هذه الحال. والنزاع يتغذى من دوامه. وفي سورية، بينما تبقى الأمور على حالها يتغير كل شيء. * مراسل الصحيفة في الشرق الأوسط، عن «لوموند» الفرنسية، 19/5/2016، إعداد منال نحاس
مشاركة :