يعتبر الشاعر السوداني الهادي آدم (1927م – 2006م) أحد رموز الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث يمتاز شعره بالإبداع والقدرة على تصوير الانفعال النفسي ببراعة كما في قصيدته الشهيرة (الغد)، ولد الشاعر الكبير في مدينة الهلالية في السودان، حيث تخرَّج من كلية دار العلوم بالجامعة المصرية وحصل على درجة الليسانس في اللغة العربية وآدابها ، كما حصل على الدبلوم العالي في التربية من جامعة عين شمس، وقد كرَّمته جامعة الزعيم الأزهري بالسودان بشهادة الدكتوراه الفخرية، وقد قضى أغلب حياته معلماً بوزارة التعليم بمدينة رفاعة السودانية كما انتدب للتعليم خارج بلده إلى حضرموت، حيث قضى فيها فترة من الزمن وله فيها قصيدة مشهورة. اشتهرت القصيدة في فضاء الثقافة العربية بعنوان (أغداً ألقاك) بعد أن غنتها أم كلثوم في سنة 1969م، ومنحتها بُعداً فنياً في الشهرة والذيوع ولكن التدخلات الفنية في كلمات القصيدة جعلتها تنحو منحىً آخر عن أصل الكتابة ووجعها الحقيقي وصراعاتها النفسية الفعلية التي فجرت إبداع الشاعر في نظمها، ولهذا آثرت في هذا المقال أن أتناول نقد أصل القصيدة كونها مرتبطة بوعي الشاعر وقريبة من تجربته الشعرية على عكس كلمات الأغنية التي تحورت من أجل سياقها الفني الغنائي، فالذي يهمنا هو تجربة الشاعر ووعيه الإبداعي الذي أجاده بتصوير الانفعال الذاتي داخل سياق القصيدة الرائعة (الغد). يبتني هيكل القصيدة على أساس الخوف، الرهبة من الغد ولقاء المحبوب، لكن ما لفت انتباهي في قصيدة الغد روعة تصوير الشاعر للصراع النفسي عندما رسمه ضمن سياق هندسي بالغ الدقة، حيث يستهل المشهد الشعري بتوتر متصاعد يتبعه هدوء متهابط وهكذا، ابتدأ الهادي آدم فكرة القصيدة بثنائية متناقضة، قلق الشاعر من موعد لقاء حبيبته في الغد، وفي نفس الوقت شوقه ولهفته لحضور ذلك اللقاء! هذه التناقضية النفسية صوّرها الشاعر بإبداع فني رائع، حاولت في هذا المقال أن أرصد شيئاً من التشكيلات الجماليّة في هذا الأسلوب الابتكاري الذي ابتدعه الهادي آدم عن قصد أو عن غير قصد، وأغلب الظن عندي أنه عن غير قصد رغم الدقة الهندسية في رسم منحنى الانفعال الذاتي للشاعر داخل هيكلية القصيدة، وهنا يحضر التساؤل المهم: كيف يستطيع الشاعر عن غير وعي مباشر أو قصد أن يفعل ذلك؟ الإجابة تكمن في التجربة الشعرية الثرية الطويلة والخبرة المتراكمة سواءً في تلقي إبداعات الآخرين وهضمها ضمن القراءات الذاتية للشاعر أو الخبرة الفنية في صناعة النصوص الإبداعية ضمن مجال الموهبة ، فهذه التشكيلة الفنية تتكدس في قاع اللا وعي للشاعر المبدع بحيث تجعله يبدع في كتابة النص أحياناً دون دراية أو إدراك مباشر لهندسته البارعة في تصميم هيكل القصيدة، فمثلاً نجد الهادي آدم في قصيدته الغد صّور صراعه النفسي تجاه الغد وموعد لقاء المحبوب بأسلوب هندسي معين رسمه ضمن خبرته الإبداعية داخل سياق القصيدة، هذا الأسلوب يتضمن منهجين، الأول يمثّل الحيرة النفسية والصراع الذاتي وقد صوَّر الشاعر ذلك كما قلنا ضمن سياق ثنائية متناقضة، أي خوفه الشديد ورهبته من اللقاء وفي نفس الوقت حرصه التام على موعد لقاء المحبوب في الغد، وضِمْن هذا السياق الفني كثّف الشاعر من استعمال أداة (لكنْ) الاستدراكية سواءً بالتخفيف: وأحييك ولكنْ بفؤادي أم يدي أو بالتشديد: لست أدري كيف ألقاك ولكنِّي صَدِي فـ (لكنْ) الاستدراكية تعطي معنى الحيرة بصورةٍ مكتملة، وحتى تكتمل صورة الصراع النفسي ضمن سياق القصيدة استعمل الشاعر أداة الرابط والعطف (أم) حتى يكتمل مشهد الدراما الفني لأنها تمنح المتلقي صورة التحيّر وعدم القدرة على حسم أمر موعد الغد ، فـ (أم) دائماً ما تتبع (لكنْ): وأحييك ، ولكن بفؤادي أم يدي أم بطرفٍ خاشع اللمح كليلٍ مجهد المنهج الثاني يقتضي بمدح المحبوب والثناء عليه، والتصريح المباشر بالحب دون أي مواربة أو شك، وهذا الأسلوب يستعمله الشاعر مباشرةً في المقطع التالي بعد المقطع الأول الذي ملأه بالقلق والحيرة النفسي، وهنا نلاحظ الشاعر يستعمل أداة الإشارة (أنتِ): أنتِ يا جنة روحي واصطحابي وجنوني أنتِ يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني أنتِ يا معبد صمتي وصلاتي وسكوني القصيدة عموماً قصيرة، حوالي 29 بيتاً مكونة من ستة مقاطع (المقطع الأول والثاني والثالث: ستة أبيات، والرابع والسادس: أربعة أبيات، أما الخامس: فستة أبيات)، فهي ليست ملحمة مطولة في الحب مثل قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي ولكنها تتخذ نفس أسلوب الوعي وتقنية السرد الشعري في التعامل مع الصراع النفسي، وأعني أن المقطع الأول يعلو فيه الصراع إلى أوجهه فيرتفع منحنى الصراع النفسي إلى الأعلى ثم يعود في المقطع الثاني إلى الهدوء بمدح المحبوب من خلال اسم الإشارة فيحدث هبوط منحنى الصراع إلى أسفل وهكذا، وبالتالي نجده في المقطع الثالث يعود منحنى الصراع إلى الصعود مرة أخرى من خلال مصطلحات الصراع النفسي القلقة، مثل الخشية والخوف والهيبة والدهشة: أنا أخشى من غدِ هذا وأرجوه اقترابا كنت أستدنيه لكنْ هبته لما أهابا وتولت دهشة القرب فؤادي فأنابا هكذا أستبطن العمر نعيماً وعذابا وربما لاحظ وعي الشاعر الإبداعي أن أسلوب الصراع النفسي لم يكتمل في المقطع الثالث، فيستمر المنحنى في الصعود أيضاً في المقطع الرابع حتى يبلغ الذروة التصاعدية ليعود كذلك في استعمال أداة الاستدراك (لكنْ) كما فعل في المقطع الأول: أتغاباك ولكنْ ظُنّني كيف تشاءْ أناديك، ولكنْ نداءاتي دعاءْ ثم يعود في المقطع الخامس للهدوء النفسي، حيث يهبط منحنى الصراع النفسي معه إلى الأسفل مثل المقطع الثاني مرة أخرى، سواءً في مدح المحبوب أو في استعمال أداة الإشارة كتعبير عن الحب بالثناء، ولأن المنحنى قد صعد في المقطعين الثالث والرابع بشكل مضاعف فإن ذلك يتطلب مضاعفة أيضاً في استعمال اسم الإشارة من أجل الهبوط ولذا نجده استعمل أداتي إشارة وليس أداة واحدةٍ (هذه / أنتِ): هذه الدنيا سماء أنتِ فيها القمر هذه الدنيا عيون أنتِ فيها البصر هذه الدنيا ليالٍ أنتِ فيها العمر هذه الدنيا كتاب أنتِ فيها الفكر وهكذا رسم الشاعر هيكل قصيدته بهندسية بارعة بحيث يكثف من التوتر النفسي في مقاطع الصعود من خلال أداة (لكنْ) التي تمنح المتلقي معنى الحيرة وكذلك باستعمال الألفاظ التي تعطي دلالة على القلق الذاتي مثل الخوف والخشية والهيبة وهكذا، بينما يمنح مقاطع الهبوط ألفاظ الرقة والهدوء التي يمتدح فيها المحبوب من خلال تكرار أداة الإشارة في كل بيت. أما في المقطع السادس الأخير، وهو نهاية المنحنى الذي ينتصف المسار بصورة عادلة في المنتصف كنهاية للسرديّة الشاعريّة حين يحسم العاشق أمره بصورة فنية يتلاشى عند مركزها معنى الزمن، ويتساوى أمر الغيب المستقبلي أو الماضي الفائت: فغداً لا نعرف الغيب ولا ماضٍ تولى وغداً لا يعرف القلب لهذين محلّا ثم يحسم أمره بالإجابة عن السؤال الذي حيّره في بداية القصيدة، وظل يكرره في ختام بعض المقاطع كإشارة إلى أنه بيت القصيد: وأحييك ولكنْ بفؤادي أم يدي ويدور معناه حول طريقة التحية، بالتحية القلبيّة المعنويّة أم بالتحية الحسية باليد، وحتى ينهي قصته السردية الماتعة يحسم أمره بأنه اختار تحية الفؤاد الحسية: وغداً تصطخب الجنة أنهاراً وظلا أحييك ولكن بفؤادي ليس ... إلا
مشاركة :