القاهرة: الخليج يجذب قصر البارون إمبان، بضاحية مصر الجديدة الأنظار، بمعماره الغريب، وبما يثيره في وجدان الملايين في مصر من حكايات مثيرة، عن تحوله طوال العقود الأخيرة، منذ هجره سكانه، إلى بيت للجان والعفاريت. ويرجع تاريخ إنشاء هذا القصر الفريد إلى نهاية القرن التاسع عشر، وعلى وجه الدقة بعد سنوات معدودات من حفل افتتاح قناة السويس، عندما رست على الشواطئ المصرية سفينة عملاقة قادمة من الهند، وعلى متنها مليونير بلجيكي الجنسية يُدعى إمبان، وكان نابغاً في فنون الهندسة، فأقام بأمواله الوفيرة بنكاً خاصاً في بروكسل، جلب له المزيد من الأموال، دفعته إلى الترحال والسفر الدائم، فأقام مشروعات عدة في كثير من دول العالم، بداية من البرازيل، مروراً بالكونغو، حتى أمريكا الجنوبية والمكسيك، الهند. لم تكن هواية إمبان تتمثل في جمع الأموال، وإنما عرف عنه ولعه الشديد بالعمارة وفنونها، وبخاصة الهندية منها، وربما كان ذلك هو دافعه لأن يشتري تلك المساحة من الأرض شرق القاهرة، ويقيم عليها قصره المنيف، بعد أن سحرته العاصمة المصرية، وخطفت بصره بجمالها وألقها، حتى أنه كتب في وصيته أن يدفن في ترابها، حتى ولو وافته المنية خارجها. عندما اختار البارون إمبان الصحراء الشرقية للعاصمة المصرية لبناء قصره، في ذلك الزمان، لم يكن يجول في خاطره بالطبع أنه سيأتي اليوم الذي تتحول فيه هذه الصحراء الجرداء القاحلة، إلى واحد من أرقى أحياء القاهرة، بل ومصر كلها. فور استقراره على موقع القصر في الصحراء، أخذ البارون يعكف على دراسة الطرز المعمارية، التي يمكن أن يتبعها في بناء قصره، فرأى أن أنسبها ذلك الطراز المعماري المتبع في بلاد الهند، والطريف أن هذا الطراز الذي بنى عليه إمبان قصره، مقتبس من تصميم فرنسي لقصر غاية في الجمال، أبدعه معماري فرنسي يدعى ألكسندر مارسيل، وهو الطراز الذي يجمع بين فن العمارة الأوروبية، والأخرى الهندية. لم يكن اختيار البارون إمبان للطراز الهندي، فقط، هو حبه في الهند أو إعجابه بطرزها المعمارية الفريدة، وإنما كان الأمر يتعلق، إلى حد كبير، بنوع من العلاقة الخاصة بالشعب الهندي، فكما تذكر الروايات التاريخية، فقد مرض إمبان مرضاً شديداً في أثناء إحدى سفرياته إلى الهند، وهناك شاهد بعينيه كيف تعهده الهنود بالرعاية، حتى أنهم أنقذوه من موت محقق، فنذر لذلك أن يبني قصوره الجديدة على الطراز الهندي، عرفاناً منه بالجميل. حرص البارون على أن يكون قصره تحفة معمارية، فاشترى طراز القصر من المعماري الفرنسي مارسيل، وعاد به إلى القاهرة، لينفذه بالتعاون مع عدد من المهندسين من بلجيكا وإيطاليا، ليشرعوا في بنائه على ربوة مرتفعة في هذا الموقع، غير أن العمل الفعلي بالقصر لم يبدأ إلّا في العام 1900، عندما بدأ البارون في إنشاء القصر في مدة زمنية استغرقت، حسبما تشير اللوحات الرخامية عند البوابة الرئيسية خمس سنوات، ليشهد العام 1905، بداية حياة جديد في الصحراء المصرية. ويتكون قصر البارون من طابقين، بواقع أربع غرف للنوم في الدور العلوي، وثلاث في الدور الأول، استخدمت واحدة منها كصالون والأخرى للضيوف، والثالثة كصالة للبلياردو، بينما حرص البارون على بناء المطبخ، وغرف الخدم، ومواقف السيارات في الطابق الأرضي. وفي شمال القصر بنى البارون برجاً كبيراً من أربعة طوابق، يربط بينها سلم حلزوني من الخشب، ومزين من الخارج بمجموعة من التماثيل تمثل بعض الأساطير الهندية، بينما وضعت على مدخل القصر تماثيل لأفيال وثعابين تحمل أعمدة البوابة الرئيسية. ويعد قصر البارون تحفة فريدة من نوعها، لا تغيب عنها الشمس أبداً، ذلك أن القصر بني على قاعدة خرسانية ترتكز على رولمان بلي، تسمح بتحرك القصر ليواجه الشمس طوال ساعات النهار، حيث تدور تلك القاعدة فوق عجلات متحركة، بحيث يلف القصر بمن فيه ليرى الواقف في شرفة القصر كل ما يدور حوله، وهو في مكانه، وهي الخاصية التي لا ينفرد بها قصر البارون في مصر، فقط، وإنما يشاركه فيها قصر السكاكيني في حي الجمالية العريق. وتسبب معمار قصر البارون في إشعال غيرة السلطان حسين، فحاول أن يضم القصر إلى عرشه، غير أن إمبان رفض إهداءه إياه، وقام ببناء قصر بالقرب منه أهداه للسلطان، إلّا أن الأخير رفض الهدية، مصراً على طلبه الأول. بعد رحيل السلطان أقام إمبان شركة هليوبوليس، التي قامت تالياً بالتخطيط لبناء ضاحية مصر الجديدة، بالاشتراك مع باغوث نوبار باشا، على مساحة تقارب من 6 آلاف فدان، اعتمدت فيها شركته على بناء العديد من الفيلات لأبناء الطبقة المتوسطة والأثرياء المصريين، بدءاً من العام 1910. بعد وفاة البارون خلفه ابنه إمبان الثاني، وكان كوالده محباً للسفر والترحال، لذا لم يقم في القاهرة كثيراً، ومن ثم عرضت عليه إحدى الشركات البلجيكية بيع القصر، عبر مزاد علني، شمل بيع محتوياته كاملة، وكان ذلك في العام 1954، ليفوز بالمزاد السوري محمد بهجت الكسم، والسفير السعودي محمد علي رضا، وشقيقه علي علي رضا، وقد دفع الثلاثة آنذاك مبلغاً قدر بنحو مئة وستين ألف جنيه. حاول الملاك الجدد للقصر مراراً أن يحولوه إلى نادٍ لأثرياء العالم، غير أن حلمهم لم يكتمل بسبب عقوبات عدة، إذ أصرت وزارة الشؤون الاجتماعية على الإشراف على مثل هذه الأنشطة، ما دفع ملاكه إلى تأجيل تنفيذ الفكرة، حتى كانت واقعة الاعتداء الثلاثي على مصر. بمرور الأيام تعرض القصر لإهمال شديد، وفي العام 1993 تم إدراجه كأثر إسلامي، بقرار من مجلس الوزراء المصري، وهو ما يعني أن ملاك القصر لا يستطيعون التصرف فيه بالبيع، من دون الرجوع إلى الجهات المعنية، طبقاً لقانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983، ورغم ذلك ظل هذا الأثر الفريد معرضاً للإهمال. قبيل ما يزيد على عشرة أعوام، كشفت أجهزة الأمن المصرية عن مفاجأة مثيرة، زادت من الإثارة التي أحاطت بقصة القصر على مدى عقود، عندما أعلنت تلك الأجهزة عن توقيف مجموعة من المراهقين أطلق عليهم عبدة الشيطان، كانوا يلتقون داخل القصر لممارسة طقوس خاصة في منتصف الليل، وهم ملطخون بدماء القطط، ما عزز من الحكايات المثيرة حول أن القصر تحول إلى مسكن دائم للعفاريت والجان. وظل القصر على حاله إلى أن اشترته مؤخراً وزارة الإسكان، من ورثة الملاك السورين والسعوديين، بمبلغ قدر بنحو 21 مليوناً ونصف المليون دولار، فضلاً عن منح أراضٍ لورثته الملاك، بقيمة تساوي قيمة المبلغ نفسه، لتبدأ لاحقاً في ترميمه بالتعاون مع وزارة الثقافة، ليستعيد القصر عافيته، ويودع مرحلة، ظل القصر يواجه خلالها العديد من التلفيات نتيجة الإهمال الذي تعرض له على مدى عقود عديدة.
مشاركة :