لم يكن هوميروس سيّء النيّة في طريقة تمثيله الشعري لأحوال المجتمع اليوناني، فتلك هي معايير المحاكاة الشعرية القائمة على المباعدة بدل المقاربة في تمثيل المرجع، ففي الوقت الذي سعى فيه الشاعر الأعمى إلى تمثيل ما يعتقد أنه مجمل ثقافي عام للمرجعية الاجتماعية والتاريخية الأغريقية، قام، طبقا لمفهوم أفلاطون عن المحاكاة، بتخريبه بوسائط مجازية حرفته عن الهدف المراد تحقيقه، ليس لأنه تقصّد ذلك، أو كان جاهلا به، وإنما لأن مفهوم المحاكاة عند أفلاطون مركّب على نحو لا يفي بشروط الأدب عند هوميروس، وفيه تراتبات ذهنية يتعذّر الأخذ بها من طرف الشاعر، فالأصل عند أفلاطون مُثل متعالية، أي حقائق مطلقة، لا تقبل التغيير، وما العالم المادي إلا مسخ لها، فيكون كلّ تعبير تخيّلي، أدبي أو فنّي، عدول شائه عن المسوخ المادية التي انزاحت عن الأصول المتعالية، فالتمثيلات الأدبية تحتل المرتبة الثالثة في حال وضعت في اعتبارها محاكاة الواقع المادي، وحسب هذه التراتبية تتحدّد قيمة الأشياء في النظام الفكري عند أفلاطون، وحينما يدرج الشعر الملحمي عند هوميروس في هذه التراتبية الأفلاطونية للمحاكاة، فسيكون مآله خيارين، أما عدم الاستجابة لشروطها أو نفيه عنها لأنه مخرّب لقواعدها، فشرط الأدب المحاكاة، وأي عدول عنها يقطع الأدب عن وظيفته الأخلاقية. يريد أفلاطون من الأدب أن يحوز، بالمحاكاة، شيئا كبيرا من الواقع، بعد أن حاز الواقع شيئا من المُثل، ولكن أشعار هوميروس، بخصائصها المجازية، ومبانيها الأسطورية، لا تستجيب لرغبة التملّك التي قصدها أفلاطون، إنما تقيم صلة تخيلية بمرجعايتها، فتحوم حولها، ولا تقرّرها، وبذلك فهي تحدث لبسًا من حيث أن وظيفتها التمثيلية لا تخدم الوظيفة الأخلاقية التي يتوخّاها أفلاطون، ولما كان شديد التدقيق في صوغ أركان جمهوريته، فهو المؤهل لقبول أو استبعاد ما يراه مفيدا أو مضرّا لمجتمع الجمهوريته، فمعياره الأخلاقي للفضيلة يقوم على ثنائية الخير والشرّ، وقد وجد أنّ مواطني الجمهورية لا يرجون خيرًا من أقوال هوميروس، فاقترح إبعاده عنها. هوميروس شخص غير مرغوب فيه في جمهورية أفلاطون، فهو لا يناسب طرز الحياة الجديدة فيها، بل هو مبعث ضرر كبير، إنه شيخ أعمى مخرّب لنظام المُثل العقلية المزمع تأسيسه فيها. أغلقت الجمهورية أبوابها دونه. وكما كان هوميروس جوالا ضريرا لا يثبت في مكان من ربوع اليونان القديمة، انتهى شريدا خارج جمهورية أحد أتباعه الذي حاول تقمّص دوره في شبابه دون أن يفلح في ذلك. وإلى ذلك، فغيرة أفلاطون الفيلسوف من هوميروس الشاعر حالت دون قبوله ضيفا في جمهوريته، وسبب ذلك غيرة أدبية، في أول الأمر، هدفت إلى ترسّم خُطى الشاعر، لكن تلك الغيرة ما لبثت أن اكتست طابعا أخلاقيا تقويميا، فكلّ وافد لا يراعي شروط أفلاطون، لا ينبغي الترحيب به، فهو ضيف ثقيل، لا يقبل مقيما فيها، ولا يجوز له الاستيطان. حتى زيارته العابرة تترك أذى في نفوس المواطنين. حينما سنّ أفلاطون معايير المواطنة في الجمهورية الجديدة ارتأى إبعاد مثله الأعلى عنها، نُفي مؤسّس جمهورية الخيال عن جمهورية الواقع. وجد الخَلَف في ضيافة السَلَف ضررا أكيدا في جمهورية نزعت عنها الفوضى، وأحلّت النظام؛ فلا مكان لضيف يتغنّى، وينشد، ويبهج، بل المكان لمن يتأمّل، ويفكّر، ويعمل. على أن المفارقة تطوي حدثا لا سابقة له في التاريخ الثقافي، فيما نعلم، فأفلاطون شكّل صورة ذهنية عن المجتمع اليوناني القديم اعتمادا على ملاحم هوميروس، ولا خبرة له بغيرها، ولا وسيلة سواها، فالأحداث التي يرجّح أن هوميروس استلهمها بالإنشاد الشعري وقعت قبل نحو ألف عام من عصر أفلاطون، ولا دليل قاده إليها إلا هوميروس نفسه، وعلى هذا افترض وجودا حقيقيا للعالم الذي رسمته الملاحم الهوميرية، لكن مأخذه على هوميروس أنه لم يراع شروط المحاكاة المطلوبة عنده حينما أصبح فيلسوفا أخلاقيا، ولم يأخذ في الحسبان أن أشعار هوميروس لم تقم على محاكاة لعالم موجود، بل مثّلت شذرات من مضامين المخيال الاجتماعي اليوناني الذي سبقه بأكثر من أربعة قرون، وأتى أفلاطون المتأخّر عنه بأربعة قرون أخرى من أجل محاسبته على عدم مراعاة قواعد المحاكاة مع واقع كان من صنع هوميروس نفسه. تورط أفلاطون فيما لا يحمد عقباه، إذ عنّف هوميروس لأنه أجرى تعديلا شعريا مفرطا على واقع كان قد استنتجه من أشعار هوميروس، والحال هذه، فيتعذر المضي مع أفلاطون، وسائر القائلين بنظرية المحاكاة، لأنهم شكلوا صورا، اعتبروها دقيقة، عن أحداث الماضي البعيد اعتمادا على أشعار هوميروس، ولم يعاينوا ذلك الماضي، أو يجدوا له وصفا دقيقا في مظان وصفية، ومع ذلك انخرطوا في نقاش مع هوميروس حول مبالغته في محاكاة واقع سابق عليه إلى درجة أتهموه بتشويه ذلك الماضي المجيد حينما أدرج أحداثه في نظام خيالي لا يحتمل القبول المنطقي، ولم يراعوا كونه ماضيا شعريا صاغ ملامحه العامة هوميروس نفسه اعتمادا على مرويات شفوية شائعة قبله. ومهما كان انزلاق أفلاطون بعيدا عن مفهوم الأدب القائم على العدول اللغوي، أو شططه في الحكم على وظيفته التخيّلية، فقد كان مريدا مشاغبا شكّل صورة عن الماضي من هوميروس ثم عاقبه بتهمة عدم الأمانة، ولو دقّق في محتوى القول الهوميروسي، ومبانيه الحكائية، لوفّر على نفسه تلك المحاكمة التي حرّضها مفهوم المحاكاة، وفي كلّ ذلك توارى ذكر هوميروس الأعمى، الذي يتعذّر عليه الوفاء لشروط المحاكاة لسبيين: فقدان البصر، وغياب العالم المرجعي. التمس أفلاطون المبصر من هوميروس الضرير الدقّة في المحاكاة، لكن واقع حال هوميروس لايقبل بالدقة، ولا يوقّرها، بل يأنف منها، وتلك هي محاكاة الأعمى في عصور الشفوية، ففضلا عن عجز الشاعر عن الرؤية التي ينبغي أن يتولاها المبصرون، ففحوى ملحمتيه، ومبانيها، أحداث سرابية طوتها القرون، وأعيد إنشادها طبقا لمقتضيات القول الشعري، وسواء أختلق هوميروس تلك الأحداث أم أنه تولّى صوغها شعرا بعد أن كانت تروى مشافهة قبله بزمن بعيد، فيتعذر إخضاعه لشروط المحاكاة التي يريد منها أفلاطون تفسيرا للعالم، ثم تفسيرا للفنون والآداب. أراد أفلاطون المبصر العقلاني أن يجعل من هوميروس الضرير اللاواعي تابعا، بكبحه مفعول حكاياته البطولية المفرطة في عدم احتمال وقوع أحداثها، فكأنه رغب في بسط سيطرته على ماضي الإغريق بجعل مملثهم الأكبر تابعا له، وخاضعا لقيود المحاكاة التي اقترحها، لكن هوميروس لم يحفل بالكبح الأخلاقي، ولم يأبه بتلك القيود، فهو عابر لحدود الأزمنة والأمكنة، وغير قابل للتوطين في جمهورية أبوية.
مشاركة :