يزداد المشهد الليبي غموضا مع استمرار تكريس حالة الانقسام السياسي وتعامل المجتمع الدولي مع الوضع الحالي على أنه مرشح للبقاء على ما هو عليه لعقود قادمة، وربما ليتحول إلى الحل الأخير عندما يتمكن كل طرف من الأطراف الإقليمية والدولية من تحديد مناطق نفوذه ومجال مصالحه دون المساس بنفوذ ومصالح غيره. ظاهريا، تحول الوضع في ليبيا إلى مؤشر غير قابل للشك على فشل الأمم المتحدة وعجزها عن توفير العلاج النهائي للأزمة. كل ما تقوم به حاليا هو التعامل مع الوضع الليبي على أنه مرض مزمن يحتاج إلى روتين وظيفي من قبل فريق إسعاف مباشر. عندما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 25 يناير تعيين الغانيّة حنا سيروا تيتيه رئيسة للبعثة الأممية في ليبيا وممثلة شخصية للأمين العام، لم يكن متأكدا من أنها ستأتي بالحل، ولكن المهم أنها حظيت بموافقة الدول الأعضاء في مجلس الأمن التي لا تزال تختلف على الخطوط العريضة لتشخيص الحالة الليبية واقتراح العلاج المناسب لها. ستكون تيتيه السيدة الثانية بعد ستيفاني ويليامز التي تتولى المنصب إلى جانب عشرة رجال أثبتوا جميعا فشلهم، واختار أغلبهم الاستقالة بحثا عن السلامة والحدود وتأمين الخروج بأخف الأضرار. ستجد أمامها سيدة أخرى هي ستيفاني خوري التي سبقتها إلى منصب رئيسة للبعثة بالوكالة والذي تولته بعد استقالة الرئيس السابق للبعثة عبدالله باتيلي فيما أن مهمتها الرسمية هي نائبة رئيس البعثة مكلفة بالملف السياسي. في الثاني من يوليو 2018 أعلن غوتيريش تعيين الدبلوماسية الأميركية ستيفاني ويليامز نائبا لرئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا للشؤون السياسية، بعد أن شغلت منصب القائم بالأعمال في سفارة بلادها بطرابلس لمدة 10 أشهر، مع تجربة أكثر من 24 عاما من الخبرة في الشؤون الحكومية والدولية قضت أغلبها في البلدان العربية كالعراق والأردن والبحرين وسوريا والكويت والإمارات، كما شغلت بعد انضمامها إلى العمل في وزارة الخارجية الأميركية منصب ضابط مكتب الأردن، ونائب مدير شؤون مصر والشام، ومدير مكتب المغرب العربي. في الثاني من فبراير 2020 قدم سلامة استقالته من مهمته عبر تغريدة على تويتر (إكس حاليا)، لأسباب صحية، فيما لا يزال السبب الحقيقي غامضا إلى حد الآن، ولا يستغرب من أنه يعود بالأصل إلى ضغوط أميركية بالأساس بعد أن كان قد وطّد علاقاته مع بعض الأطراف الليبية، لاسيما أن الاستقالة جاءت في ظل الحرب الضروس التي كانت تدور رحاها في غرب البلاد بين قوات الجنرال خليفة حفتر وميليشيات حكومة الوفاق المدعومة بقوات تركية ومرتزقة تم استقطاب أغلبهم من شمال سوريا ودول الساحل. بعد مرور عشرة أيام على استقالة سلامة أعلن غوتيريش تعيين ستيفاني ويليامز كممثلة خاصة بالإنابة ورئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، فيما تمت عرقلة كل محاولات تعيين مبعوث جديد خلال تلك الفترة. أثبتت السيدة الأميركية أنها متمكنة من الملف الليبي بشكل لافت، وأنها تستطيع الحديث مع الساسة وأمراء الحرب المتعجرفين كما مع أساتذة الاقتصاد والعلوم السياسية وشيوخ القبائل، وهي تجيد المجاملات عندما يفرض الموقف ذلك، لكنها بالمقابل كانت متمكنة من تفاصيل القضية وتشعبات الملف وممسكة بخيوط اللعبة الداخلية والخارجية، ما جعل منها اللسان الأكثر سلاطة في الكشف عن ظاهرة الفساد السياسي والمالي والأسباب الحقيقية التي تحول دون التوصل إلى حل للأزمة المتفاقمة في البلاد منذ عام 2011. في يناير 2021 أعلن غوتيريش تعيين يان كوبيش مبعوثا خاصا له إلى ليبيا ورئيسا لبعثة الأمم المتحدة هناك، مبديا امتنانه للقيادة الفائقة التي أظهرتها ويليامز في دفع العملية السياسية في ليبيا إلى الأمام، وهي التي نجحت في قيادة الجهود الأممية لعقد اتفاق وقف إطلاق النار في جنيف 2020، وكانت وراء تشكيل وإدارة ملتقى الحوار السياسي الذي عقد أول اجتماعاته في تونس في نوفمبر من نفس العام، والذي اصطدمت خلال فعالياته بتحويله إلى مزاد علني لبيع وشراء الأصوات التي سيكون لها أثر بالغ في انتخاب السلطة التشريعية الجديدة خلال اجتماع جنيف في فبراير 2021. راهنت ويليامز على أن تقود البلاد إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية في ديسمبر 2021 لتتزامن مع الذكرى السبعين لاستقلال البلاد وتأسيس دولتها الوطنية. كانت تعتقد أنها قادرة بالفعل على إخراج البلاد من النفق في الوقت الذي كان المتمكنون من أبجديات الملف يدركون أن تداخلات الخارجي مع الداخلي لن تسمح بالوصول إلى تنظيم استحقاق ديمقراطي تعددي حقيقي يمنح الشعب فرصة اختيار قادته عبر صناديق الاقتراع. حتى الدول الأكثر رسوخا في الديمقراطية تختار دعم دكتاتور فاسد يخدم مصالحها على ديمقراطي مصلح تتناقض أهدافه مع أهدافها. الكثير من القوى الإقليمية والدولية عملت على عرقلة المسار الانتخابي ودفعت عملاءها في الداخل إلى الإطاحة بمشروع ويليامز لمنع الشعب من اختيار السلطة التي يمكن أن تسترجع سيادة الدولة وتصون مقدراتها وتحررها من آثار التدخلات الخارجية السافرة. في 21 نوفمبر 2021 أكد المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، أن يان كوبيش قدم بالفعل استقالته للأمين العام، الذي قبلها “بكل أسف”. وأضاف أن الأمين العام يعمل على إيجاد بديل مناسب “وندرك تماما موعد الانتخابات ونعمل بأسرع صورة ممكنة لضمان استمرارية القيادة.” أكد دوجاريك أن للأمم المتحدة “وجودا قويا على أرض الواقع في ليبيا،” وأن جميع الزملاء سيواصلون العمل مع المؤسسات الليبية في ضوء الانتخابات المقبلة، ناهيك عن التحديات الإنسانية التي يواجهها الشعب الليبي. كان ذلك التصريح مثيرا للسخرية، لأن الجميع كان على علم بأن الانتخابات لن تنتظم وأن هناك أطرافا دولية قررت عرقلة المسار، وأن كوبيش اضطر إلى الاستقالة بعد أن أدرك أنه مسؤول غير معتمد على أرض الواقع، وأنه سيتحمل مسؤولية الفشل من دون أن يكون فاعلا فيه. هناك شيء ما يجعل من استقالته امتدادا لاستقالة غسان سلامة. في ديسمبر 2021 أعلن غوتيريش عن تعيين ويليامز مستشارة خاصة له معنية بالشأن الليبي، مشيرا إلى أنها ستقود جهود المساعي الحميدة والوساطة والانخراط مع أصحاب المصلحة الليبيين الإقليميين والدوليين لمتابعة تنفيذ مسارات الحوار الليبي الثلاثة -السياسي والأمني والاقتصادي- ودعم إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد. بعد سبعة أشهر استقالت ويليامز من منصبها. سيذكر لها التاريخ أنها أشرفت على قيادة المسارات الليبية – الليبية الثلاثة التي رسمها مؤتمر برلين في يناير 2020 ونصّت عليها لاحقا قرارات مجلس الأمن، وكانت وراء تشكيل اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 التي نجحت في الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أكتوبر 2020 والسير قدما في خطط توحيد المؤسسات العسكرية والترتيب لرحيل المرتزقة والقوات الأجنبية التي تنتهك السيادة الليبية. كذلك نجحت في رفع الإغلاق النفطي خلال حرب طرابلس في العامين 2019 و2020. استقالت ويليامز بعد أربع سنوات ونصف السنة من المعاناة من الملف الليبي، نجحت خلالها في تحقيق المسموح بتحقيقه من قبل القوى الدولية المتصارعة. بعد مرور شهر على مغادرتها المنصب تم تعيين مبعوث أممي جديد، السنغالي عبدالله باتيلي الذي جاء بدوره بسلة طموحات وهو الأفريقي الذي من المفترض أن يكون متمكنا أكثر من غيره من الملف الليبي. في مارس 2023 أعلن عن مبادرة جديدة لحل الأزمة الليبية، والاتفاق على قاعدة دستورية بعد ثلاثة أشهر لضمان إجراء الانتخابات قبل نهاية العام. توصل بالفعل إلى تحقيق توافق بين مجلسي النواب والدولة على القاعدة الانتخابية. ولكن الأزمة كانت أعمق، وبعض الفرقاء كانوا متمسكين بالسلطة ومتمترسين وراء تحالفاتهم الداخلية والخارجية لمنع التوصل إلى الحل والانتخابات. في نوفمبر من نفس العام حاول باتيلي الركض وراء سراب الصحراء الليبية بالدعوة إلى مبادرة جديدة تتمثل في طاولة خماسية تجمع بين رئيس المجلس الرئاسي ورئيسي مجلسي النواب والدولة ورئيس حكومة الوحدة الوطنية والقائد العام للجيش. المبادرة كانت غير واقعية ومجرد أداة لكسب الوقت. في أبريل 2024 أعلن باتيلي استقالته بسبب فشل جهود المصالحة بين الأطراف المتنازعة التي اتهمها بإدامة تقسيم البلاد لخدمة مصالحها، ووجه انتقادات للأطراف الرئيسية المتصارعة في البلاد، منددا بـ“غياب الإرادة السياسية وحسن النية لدى القادة الليبيين السعداء بالمأزق الحالي،” كما أشار بإصبع الاتهام من دون تسمية الحلفاء الإقليميين إلى كلا المعسكرين المتنافسين، قائلا إن “التصميم الأناني للقادة الحاليين على الحفاظ على الوضع الراهن من خلال المناورات وتكتيكات المماطلة، على حساب الشعب الليبي، يجب أن يتوقف.” اللافت أن استقالة باتيلي جاءت بعد مرور حوالي 40 يوما على قرار الأمين العام للأمم المتحدة تعيين الأميركية من أصل لبناني ستيفاني خوري نائبة للشؤون السياسية لرئيس البعثة في ليبيا خلفا للزيمبابوي ريزيدون زينينغا الذي كان قد تم تعيينه في المنصب في ديسمبر 2020. كان واضحا أن هناك خلطة جديدة يتم الإعداد لها، وأن واشنطن قررت العودة إلى صدارة المشهد الليبي لاسيما أن المنصب الذي تولته خوري كان قد أدرج من قبل مجلس الأمن باقتراح من واشنطن، وكانت ويليامز أول من تولاه عام 2018. لم يكن مطلوبا من خوري أكثر من أن تحافظ على الوضع على ما هو عليه، أي أن تضمن تطبيق قرار وقف إطلاق النار وإنتاج وتصدير النفط. أما أخطر موقف واجهته فيتعلق بأزمة المصرف المركزي في صيف 2024 ونجحت في تطويقه بدعم دولي. في ديسمبر الماضي أعلنت رسميا عن مبادرتها لحلحلة الأزمة المكونة من خطوتين: يتم في الأولى تشكيل لجنة فنية من خبراء ليبيين لوضع خيارات تفضي إلى معالجة القضايا الخلافية في القوانين الانتخابية في أقصر وقت ممكن، وتعمل في المرحلة الثانية على تسيير حوار واسع النطاق للتوافق حول مسببات النزاع. مبدئيا ستواصل خوري عملها لتنفيذ مبادرتها شريطة أن تجد الدعم السياسي المناسب من إدارة الرئيس ترامب، وأن تتفق مع رؤية حنا تيتيه التي ستصل إلى طرابلس ومعها رؤيتها للحل، وهي في غالب الأحيان تختلف عما تم الإعلان عنه سابقا من رؤى متداخلة ومتناقضة. ستكون تيتيه أجرأ من سابقيها. ربما تكون نسخة أفريقية من ستيفاني ويليامز، أي أن تفهم وتبادر وتقترح، ولكن من دون الخضوع للتدخلات الخارجية. لن تتورط في الفساد لكي لا تفقد ورقة الضغط التي فقدها غيرها ممن ضعفوا أمام مغريات المصالح الشخصية. إذا أعلنت فجأة عن استقالتها، فلأن الأزمة مستعصية أكثر من اللازم، ولأن لا أحد يرغب في حلحلة الأزمة ومغادرة مربع الانقسام الذي يبدو أنه إلى حد الآن يفي بغرضه ويخدم مصالح الواقفين وراءه من القوى الداخلية والخارجية.
مشاركة :