أثار زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي جدلاً مستحقًا بعد تصريحاته المثيرة التي قال فيها إنه سيتخلى عن الإسلام السياسي وسيفصل الدعوي عن السياسي في حركته وحزبه. طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي أثارت كثيرًا من الجدل بكل مستوياته في كثير من الحضارات والأمم والدول، وهي مسألةٌ حسمت في السياق الحضاري الغربي وفي بعض التجارب حول العالم كتجربة اليابان وتجربة سنغافورة وهناك محاولات لمقاربتها تختلف من نموذج لآخر، والدول التي استطاعت الفصل بينهما نجحت وتقدمت والدول التي فشلت بقيت نهبًا للتخلف والفوضى والإرهاب. ولكن هل الغنوشي شخصٌ يمكن أن يقدّم نموذجًا متقدمًا في هذه القضية؟ الجواب الواضح هو أنه ليس أهلاً لذلك، فهو تربّى منذ نعومة أظفاره في محاضن الإخوان المسلمين ودخل في صراعٍ طويل مع نموذج الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ودخل في صراعاتٍ متفرقةٍ مع الجماعة الأم بمصر كما دخل في صراعاتٍ داخل حركته من تياراتٍ شبابيةٍ متفرقة التوجهات من تقدميين وسلفيين وغيرهم، وكان طول مشواره يلعب على التصريحات المتناقضة والمواقف المتعارضة. بحكم حجم حركته الصغير فقد كان الغنوشي محكومًا بغيره، ومسكونًا بمداراة الأقوياء، فالاعتدال الذي ربما عرف عنه كان بسبب قوة بورقيبة وتصريحه المذكور أعلاه إنما جاء بسبب بروز استمرار تأثير توجهات بورقيبة في الشارع التونسي، وهو لطالما حاول استرضاء الدول الغربية ووسائل إعلامها ومراكز تأثيرها، فينجح مرةً ويفشل مراتٍ. لم يزل الغنوشي مسكونًا بمشروعه الشخصي، ومن هنا جاءت شهرته بالتقلب المستمر والمواقف المتناقضة، سياسيًا ودينيًا وحركيًا، ولكن ثمة ثوابت في مواقفه السياسية على سبيل المثال، فهو ثابتٌ على عداء المدنية في الدولة التي أعلن أنه عاد إليها بعد عمرٍ طويلٍ من حربها، وهو ثابتٌ في ولائه لجماعة الإخوان المسلمين وخط الإسلام السياسي، وما خلافاته مع الجماعة إلا بالمزايدة على نفس الخط وأفضل السبل لتحقيقه، أي فرض حكم الإسلام السياسي بأي طريقةٍ كانت، وهو ثابتٌ في ولائه لما يعرف بالثورة الإسلامية في إيران، وهو مستمرٌ في ولائه لحكم الملالي وأتباعهم مثل حزب الله في لبنان ولم يزل يستقبلهم ويمجد مواقفهم وسياساتهم حتى بعد الفضيحة الكبرى للمشروع الإيراني وأتباعه في سوريا. ولنستذكر بعض مواقفه على سبيل المثال لا الحصر في ما يتعلق ببعض القضايا في المنطقة: أولاً، تصريحات وزير الداخلية السعودي الراحل الأمير نايف بن عبد العزيز التي أطلقها عام 2002 في حواره الشهير مع صحيفة السياسة الكويتية وقال فيها تعليقًا على الغزو العراقي للكويت: «جاءنا عبد الرحمن خليفة و(راشد) الغنوشي و(عبد المجيد) الزنداني فسألناهم هل تقبلون بغزو دولة لدولة واقتلاع شعبها؟ فقالوا نحن أتينا للاستماع وأخذ الآراء»، ويضيف: «بعد وصول الوفد الإسلامي إلى العراق فاجأنا ببيانٍ يؤيد الغزو». وقد أطلق الغنوشي تصريحاتٍ بعد ذلك يؤيد فيها ما قام به بعض من يعرفون بالدعاة في السعودية سواء داخلية أو إصداراتٍ معارضةٍ كانت تخرج من لندن. ثانيًا: موقف الغنوشي في 2012 من خلال كلمةٍ له في «معهد واشنطن» على السعودية ودول الخليج وقال: «الثورات تفرض على الملكيات العربية اتخاذ قرارات صعبة، فإما أن تعترف بأن وقت التغيير قد حان، أو أن الموجة لن تتوقف عند حدودها لمجرد أنها نظم ملكية»، وكعادته في الادعاء والتناقض حاول الغنوشي تكذيب معهد واشنطن ولكن المعهد بث تسجيلاً لكلمة الغنوشي بصوته على موقعه في الإنترنت. الفرقاء السياسيون التونسيون معذورون بالتقارب مع الغنوشي، وإن كان أكثرهم يعلم حجم مخادعته وتقلباته، ولكن غيرهم من المراقبين ليست لديهم نفس الدوافع الآنية، ومن هنا فإن مراهنة البعض على أن الغنوشي قادرٌ على اجتراح حلٍ تاريخي لجدل الدين والسياسية هي أقرب لضرب الودع منها إلى التحليل العلمي أو القراءة الموضوعية. لقد جاءت الغنوشي فرصةٌ ذهبيةٌ في تاريخه إبان ما كان يعرف بالربيع العربي، ولو قدّم هذا الحلّ آنذاك لربما كان له تأثير بالغٌ، ولكنّه في ذلك الوقت كان مشغولاً بالتقرّب لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وكان ينافسها في شهوة التفرّد بالسلطة وكانت ردة فعله تجاه تصريحات رئيس الوزراء التركي حينها رجب طيب إردوغان حول وجوب الذهاب باتجاه المدنية لا تشي بأي تفاؤل، ويمكن وضع هذا الموقف بالتوازي مع موقفه ضد حليفه آنذاك المنصف المرزوقي رئيس حزب «المؤتمر لأجل الجمهورية»، وقد قال المرزوقي عن ذلك في أحد خطاباته إنّ حركة النهضة تسعى إلى «الاستحواذ على مفاصل الدولة من خلال تعيين مقربين لها في المناصب الإدارية والسياسية، دون الأخذ بعين الاعتبار عنصر الكفاءة»، كما «شبّه المرزوقي ممارسات النهضة بما كان يفعله حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي الذي كان يتزعمه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي». لقد دعمت السعودية حق الدولة التونسية في الاستقلال، وقدّم الملك المؤسس الدعم للحبيب بورقيبة وللقيادة التونسية حينذاك، الدعم المادي والمعنوي، واستمرت العلاقات بين البلدين وطيدة ومتينة، في عهد الملك فيصل، وتطورت فيما بعد وبلغت أوجها في عهد الملك سلمان، وقد أظهرت تصريحات الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أثناء زيارته للسعودية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عمق هذه العلاقات والحرص على تطويرها مستقبلاً من قيادتي البلدين. لم يستطع الغنوشي استيعاب عمق العلاقات التي تربط الدولتين والشعبين السعودي والتونسي بحكم تفكيره المؤدلج وانتمائه لجماعة الإخوان أكثر من وطنه تونس، وهو الأمر الذي دفعه دائمًا لموالاة كل المشاريع المناوئة للسعودية ودول الخليج في المنطقة والعالم. يرى الغنوشي مثله مثل جماعة الإخوان المسلمين في الخميني رمزًا ونموذجًا يمكن تطبيقه في الدول العربية، ومن هنا فلم يتولّ الغنوشي في تونس إبان الربيع الراديكالي منصبًا رسميًا بل ظل مرشدًا، ومثله فعل محمد بديع مرشد إخوان مصر، تأسيًا بالنموذج الخميني. أخيرًا، فالغنوشي مراوغٌ كبيرٌ، وقد تجاوز في مراوغته حسن الترابي مع اختلاف الظروف والمعطيات، وهو ينصاع اليوم لإرادة الشعب التونسي الذي تربى على طروحات خير الدين التونسي وحكم بورقيبة، وتميز بالتعليم الحديث والوعي المدني، ويبقى جدل الدين والسياسة مفتوحًا.
مشاركة :