تراجعت العملة الصينية اليوان أمس إلى أدنى مستوياتها منذ شباط (فبراير) 2011 بعد تصريح رئيسة مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي) الأمريكي جانيت يلين قبل أيام عن احتمال زيادة سعر الفائدة الأمريكية خلال الشهور المقبلة إذا استمر تحسن بيانات الاقتصاد الأمريكي. وعززت تصريحات يلين الصادرة يوم الجمعة الماضي قيمة الدولار أمام العملات الرئيسية الأخرى. وبحسب بيانات "نظام تجارة العملات الأجنبية في الصين"، فإن متوسط قيمة اليوان تراجع أمس بمقدار 294 نقطة أساس إلى 6.5784 يوان لكل دولار. يذكر أن البنك المركزي الصيني يسيطر بقوة على سعر اليوان ويحدد بشكل يومي سعرا استرشاديا للعملة الصينية مع السماح للتجار بزيادة أو خفض سعر التداول بنسبة 2 في المائة عن السعر الاسترشادي. ومنذ عقدين من الزمان وتجربة الصين التنموية ملء السمع والبصر. وباتت معدلات النمو الصينية، والنجاحات الاقتصادية المتتالية، نموذجا يحتذى ويضرب به المثل. وانصبت الأنظار دائما على إعادة الهيكلة الشاملة للاقتصاد الصيني، وما تضمنته من عمليات تصنيع واسعة النطاق، وتحديث جذري للقطاع الزراعي، وبالطبع القفزات غير المسبوقة في تطوير البنية الأساسية، حيث أصبحت مثار غيرة وحسد ليس في البلدان النامية فحسب، ولكن في البلدان المتطورة أيضا. وسط هذا الاهتمام غاب الحديث في معظم الأحيان عن العملة الصينية اليوان، وبدا الأمر في كثير من التحليلات الاقتصادية الغربية وكأن هناك انفصالا بين معدلات النمو غير المسبوقة للاقتصاد الصيني، ووضع اليوان كعملة وطنية. لكن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت تطورات غير مسبوقة لوضع العملة الصينية في الأسواق المالية العالمية. وكللت جهود البنك المركزي الصيني لجعل العملة الوطنية عملة دولية بالنجاح، وانضم اليوان أخيرا إلى سلة العملات الاحتياطية لصندوق النقد الدولي، وتزايد الاهتمام المالي والتجاري به في التجارة الدولية. ومع هذا لا يزال اليوان ووضعيته في النظام المالي العالمي في الوقت الراهن والمستقبلي محل جدل في نظر كثير من الاقتصاديين. فبعيدا عن التقلبات اليومية أو الأسبوعية التي تمر بها العملة الصينية مثلها في ذلك مثل معظم العملات الدولية، فإن السؤال الأكثر أهمية يرتبط بمستقبل اليوان وقوته في النظام المالي العالمي خلال العقد القادم على الأقل. ويعتبر البروفيسور سيدرك بيل المختص في مجال النظم المالية أن اليوان حقق قفزة كبيرة للأمام، ولكنه لن يستطيع المضي قدما أكثر من ذلك لفترة طويلة مقبلة، نظرا للتحديات التي يواجهها الاقتصاد الصيني في الوقت الحالي، مشيرا إلى أنه إذا سعت بكين لتعظيم وضعية عملتها الوطنية في النظام المالي العالمي في ضوء التقلبات الاقتصادية التي تمر بها حاليا، فإن اليوان قد يتعرض لهزة تفقده ما حققه من مكاسب حتى الآن. وقال بيل لـ "الاقتصادية": "للمرة الأولى منذ عقد تقريبا، نجحت ألمانيا في الإطاحة بالصين من المرتبة الثانية كأكبر مانح للائتمان الخارجي، والسبب في ذلك أن بكين أنفقت مليارات من أجل مساندة عملتها الضعيفة، فالأصول الصينية في الخارج انخفضت إلى 1.6 تريليون دولار في نهاية العام الماضي، بينما ارتفعت الأصول الألمانية إلى 1.62 تريليون دولار، وبالطبع حافظت اليابان على مركزها كأكبر دائن في العالم الأول بـ 2.82 تريليون دولار، هذا الوضع المتراجع للصين سببه الأساسي الوضع الاقتصادي الداخلي المتردي، وقد أدى ذلك إلى انسحاب نحو تريليون دولار من الأسواق الصينية، ولم يكن أمام البنك المركزي الصيني للحفاظ على سعر صرف اليوان غير أن يقوم باستنزاف 513 مليار دولار من الاحتياطيات الصينية وضخها في الأسواق المحلية لإثبات صلابة اليوان ومنعه من الانهيار والتأكيد على استحقاقه للمكانة التي نالها كعملة دولية". وتابع: "الأمر أشبه بما حدث في روسيا عندما انهار الروبل أمام الدولار الأمريكي، ما دفع البنك المركزي الروسي إلى "حرق" نحو 200 مليار دولار لمحاولة فرملة انهيار الروبل أمام الدولار، ولكن عندما أدرك صناع السياسة المالية الروسية أنهم إذا واصلوا تلك السياسة فإن الاحتياطي الروسي من العملات الدولية سيضيع هباء، ولن يمنع ذلك انهيار الروبل، توقفوا عن تطبيق تلك السياسة. الأمر في الصين مختلف نسبيا لأن الصين لم تدخل في عداء مفتوح مع واشنطن كما فعلت موسكو في قضية القرم، وبالطبع الاقتصاد الصيني أقوى من نظيره الروسي، وثالثا قيمة الاحتياطيات المالية الصينية أكبر من الروسية، ولكن الحفاظ على تلك المزايا غير مضمون إذا واصل الاقتصاد الصيني تراجعه، وأصر البنك المركزي على الحفاظ على قيمة اليوان في مواجهة الدولار بأي ثمن، هذا سيؤدي إلى تراجع كبير في احتياطيات الصين المالية. ومع إدراك القيادة الصينية أن المشكلات الراهنة في الاقتصاد الوطني يمكن أن تتفاقم إذا ما أخذت قيمة اليوان في التدهور، ومحاولة إيقاف ذلك عن طريق السحب من الاحتياطي النقدي، فإنها سعت إلى إزالة جذور المشكلة بالتأكيد على أنها لن تقوم بخفض قيمة العملة الوطنية، وبقدر ما أسهم ذلك في استقرار نسبي للعملة الصينية، وتفادي السحب من احتياطي العملات الأجنبية، فإن المشكلة لم تحل بشكل كامل لأن بعض العوامل المسببة للوضع المتقلب في سعر صرف اليوان توجد أسبابها في مكان آخر غير الصين. ويعتقد مارتن برن المحلل المالي السابق في بورصة لندن أن الصين مثلها مثل دول العالم كافة، لا يمكنها التحكم في جميع العوامل التي تؤثر في قيمة عملتها الوطنية. وفي هذا السياق قال برن لـ"الاقتصادية": "جزء من التراجع الراهن في قيمة اليوان يرتبط بالتوقعات الخاصة برفع سعر الفائدة في الولايات المتحدة، فمعظم الأصول الخارجية في بلدان مثل ألمانيا واليابان مملوكة لشركات خاصة أو ذات طبيعة أسرية، أما في الحالة الصينية فأغلب الأصول الصينية تعود ملكيتها للدولة عبر البنك المركزي، وتتمثل في سندات الخزانة الأمريكية، وتعد بكين أكبر مالك لسندات الخزانة الأمريكية بما قيمته نحو 1.25 تريليون دولار، وهذا يعني أن ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية سيؤدي إلى انخفاض في قيمة السندات القديمة، ما يعني عمليا انخفاض قدرة البنك المركزي الصيني على التمويل الآني لليوان إذا ظلت حالة الانخفاض السعري الراهن له". ولا شك أن هذا السيناريو يطرح سؤالا بدهيا لماذا تتردد الصين في ترك قيمة اليوان تتحدد بناء على العرض والطلب؟ لا شك أن بكين اتخذت عددا من الخطوات المهمة في هذا المجال، فبعد أن كان سعر صرف العملة الصينية يحدد بناء على قرارات البنك المركزي الصيني، فإن السلطات المالية الصينية أدخلت بعض عوامل العرض والطلب في تحديد السعر، دون أن تترك الأمر برمته لقوانين السوق، وتسود قناعة لدى محافظ البنك المركزي الصيني بأن ترك تحديد سعر صرف العملة الصينية بناء على قواعد السوق سيؤدي إلى تراجع قيمتها بما يضر بالاقتصاد الصيني وربما بالاقتصاد العالمي، وبما يوجد بيئة عدائية في الاقتصاد الدولي قد تمهد الأرضية لحرب عملات عنيفة. ومع الأسف تبدو مواقف محافظ البنك المركزي الصيني صحيحة في الوقت الحالي. فإذا رفعت السلطات المالية الصينية القيود المفروضة على تحديد سعر صرف اليوان، وترك الأمر للعرض والطلب، وتراجعت قيمة العملة الصينية، فإن النتيجة هي زيادة الصادرات الصينية، ومن ثم تحسن الميزان التجاري الصيني، وكان يمكن للاقتصادات الأخرى مثل اليابان والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، أن تتجاهل تلك النتائج إذا كان الاقتصاد محل الاهتمام اقتصادا صغيرا أو ناشئا، ولكن عندما يتعلق الأمر بثاني أكبر اقتصاد في العالم، وبعملة دولية، فلا شك أن ردود الفعل العالمية ستكون شديدة العنف تجاه الصين، وستمهد الأرضية لحرب عملات بين الاقتصادات الرئيسة في العالم. ولهذا لا تبدو الصين أو منافسوها في عجلة حقيقية من أمرهم بترك قوى السوق تقوم بتحديد سعر صرف اليوان، فربما تكون الخسائر الناجمة عن تلك الخطوة شديدة الضرر على الجميع.
مشاركة :