إعداد- عمار عوض: كانت الأرض من شدة خصوبتها تنفلج حين يمسها ماء السماء عن خيرات الأرض، لذا أطلق عليها الأقدمون الفلوجة، ولكنها في العقود الأخيرة صارت تنفلج دماء وأشلاء ورصاصاً يهبط على أهلها من كل حدب وصوب. ومنذ الغزو الأمريكي مطلع الألفية الثانية، لم يهنأ سكان المدينة بالنوم بعيداً عن القصف المدفعي الذي ابتدره الأمريكان، ثم عاشت سنوات التفجيرات بعد ما أطلق عليه تحرير العراق، ثم استوطنها سيء الذكر تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين وسامها الزرقاوي ورهطه من الإرهابيين سوء العذاب، جنباً إلى جنب مع الفصائل الموالية لإيران. واستمرت التفجيرات والاغتيالات على أرضها، وتعرضت لظلم ذوي القربى من العراقيين حكام المنطقة الخضراء، والتقطت أنفاسها هنيهة عندما شكلت جماعة الصحوات، التي استعادت المدينة من القاعدة. ولكن قبل أن تلتقط أنفاسها اجتاحها الدواعش عام 2014، وقلبوا نهارها أسود كسواد قلوبهم وشعاراتهم. واليوم بعد عامين من سيطرة الإرهابيين، بات الموت يحلق بأهل المدينة التي يحاصرها الجيش العراقي، أو بالأحرى ميليشيا الحشد الشعبي التي يتهمها أهالي المدينة بأنهم يضمرون بأهلها سوءاً أكثر من داعش نفسها، بعد ما شاهدوا كيف نهبت ميليشيا الحشد مدينة تكريت وقتلت سكانها، والأمر نفسه حدث في الرمادي وسامراء، فبات حال أهالي الفلوجة، داعش بينهم والحشد يحوم حولهم، والموت واقع لا محالة، لذا تمسكوا بأن يدخل المدينة الحشد العشائري إذا ما طردت داعش منها في مقبل الأيام، ولكنهم مع هذا لا يأمنون مكر الحشد الشعبي، وكيف لهم أن يأمنوا من سلاحه وقراره لدى إيران عدو أهل المدينة الرئيسي. بنيت مدينة الفلوجة قرب مدينة الأنبار التاريخية، والتي فتحها خالد بن الوليد عام 12 هجرية الموافق 633م، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب،وتعرف الفلوجة بمدينة المساجد لكثرة المساجد، ومنها الجامع الكبير المؤسس عام 1899، وجامع الخلفاء وجامع أبي بكر الصديق وجامع عمر بن الخطاب وجامع عثمان بن عفان وجامع علي بن أبي طالب، وجوامع أخرى كثيرة. وتاريخ الفلوجة مع مقاومة الاستعمار والضيم قديم قدم المدينة، ففي عام 1920 إبان الاحتلال البريطاني، شهدت المدينة اضطرابات بسبب مقتل الضابط الإنجليزي، جيرارد ليجمان على يد أحد شيوخ العشائر. وفي عام 1941، حينما فرضت بريطانيا انتدابها على العراق، بعد أن احتلته قواتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى وفصلته عن الدولة العثمانية، حاولت قوات الاحتلال البريطاني دخول الفلوجة لتأديب المقاومة هناك، فواجهت دفاعاً مستبسلاً وشرساً من أهلها وهزمت بالمدينة. الهدوء الذي يسبق العاصفة كانت الفلوجة (69 كلم غرب بغداد) إحدى المدن الهادئة بعد سقوط بغداد في قبضة الاحتلال الأمريكي، مقارنة بالمدن الأخرى، حيث لم تقع فيها أعمال السلب والنهب التي انتشرت في بعض المناطق في العراق وخاصة العاصمة، وعندما قامت القوات الأمريكية بدخول الفلوجة وأخذت مراكز لها في مباني المدارس وبعض مباني الدوائر الرسمية الأخرى ومقرات حزب البعث في 28 إبريل/نيسان 2003م، قام 200 شخص من سكان المدينة بتظاهرة احتجاجية على تصرفات الجنود الأمريكان من اعتقالات ومداهمات وانتهت هذه التظاهرة بصورة دامية حيث قتل 17 من المشاركين في التظاهرة وجرح 30 شخصاً تقريبا، أمام إحدى المدارس التي استخدمها الجيش الأمريكي كمواقع عسكرية، ويعتبر بعض المراقبين هذه الحادثة الشرارة الأولى التي أدت فيما بعد إلى نشوب عمليات المقاومة ضد جيش الاحتلال الأمريكي وإلى ما يعرف بمعركة الفلوجة الأولى التي انطلقت بعد قتل أربعة من حراس وموظفي شركة بلاك وتر الأمريكية في المدينة، وتم سحل الجثث ، وحرقها وعلقت على جسر في أطراف المدينة يطل على نهر الفرات. وردت القوات الأمريكية على هذه العملية بسلسلة من القصف المكثف انتقاماً من أهالي المدينة بحجة القضاء على تنظيم القاعدة، وحاولوا السيطرة على المدينة وذلك بمساعدة الجيش العراقي الذي نشأ في ذلك الوقت، إلا إن أهالي الفلوجة تصدوا للقوات الأمريكية المدججة بالسلاح وحرموها من السيطرة على المدينة. أما المرحلة الأعنف فهي ما بات يعرف بمعركة الفلوجة الثانية، حيث قامت القوات الأمريكية بقطع تيار الكهرباء والمياه عن المدينة وبقصف المدينة لأكثر من خمسة أشهر متواصلة منذ شهر مايو/أيار 2004 إلى بداية الهجوم في نهاية عام 2004، وقامت القوات الأمريكية بتدمير المستشفيات والمراكز الطبية، وقد استعمل الجيش الأمريكي مختلف الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً كالقنابل الفوسفورية وقنابل النابالم شديدة الإحراق على أهالي الفلوجة، فأدى إلى مقتل العديد من المدنيين ونزوح الآلاف، ومن ثم قامت القوات الأمريكية بمساندة قوات الحرس الوطني (الجديد) بعمليات تخريبية لمباني ومساجد وبيوت المدينة. ليعلن إياد علاوي في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، في مقابلة متلفزة انتهاء معركة الفلوجة وأن الهجوم عليها حقق أهدافه، وسمح للنازحين من سكان الفلوجة بالعودة إلى منازلهم بعد إجراء تدقيقات تحليلية على العائدين. الموت يخيم بفعل القاعدة لم يهنأ أهل المدينة كثيراً بعد سيطرة الحكومة العراقية والقوات الأمريكية على الفلوجة إذ سرعان ما استغل المتطرفون الظلم الذي حاق بأهل المدينة من قبل الحكومة في بغداد، إضافة إلى القصف الوحشي خلال معركتي الفلوجة الأولى والثانية. ومن هذه اللحظة في 2004 بدأ تنظيم القاعدة نشاطه بشكل متواضع بزعامة أبو مصعب الزرقاوي، الذي عمل على جمع شتات من المسلحين وعمل لفترة دون أي مسمى، وفي شهر أغسطس/آب 2004 بايع الزرقاوي زعيم القاعدة أسامة بن لادن، لتدخل المدينة فصلاً جديداً من العذاب نتيجة للسياسات التي ابتدرها التنظيم وصار يتحكم في أهل المدينة بالتشريعات المتشددة التي انتهجها والمعادية للمرأة والاستقلال بالرأي أو الاختلاف المذهبي. إضافة إلى أن المدينة صارت مركزاً للتنظيم ما جعلها عرضة للقصف الجوي والمدفعي وعمليات التفجير، واستمر هذا الهول طوال الأعوام 2004 -2005 -2006 ليتوصل العراقيون في المحافظات ذات الأغلبية السنية التي كانت تنشط فيها جماعة الزرقاوي إلى الضرر الذي تسببه هذه الجماعات على مستقبلهم ومستقبل العراق، ومع عدم رضاهم بسياسة الحكومة في بغداد التي توالي طائفة غير التي ينتمون إليها، إلا أنهم سارعوا إلى تكوين قوات الصحوات، وهي تجمعات عشائرية عراقية أنشئت في المقام الأول لمواجهة تنظيم القاعدة في مناطق وجودهم، انطلقت فكرة المجالس الى ديالى وصلاح الدين ونينوى وبغداد. ومع نجاح التجربة قامت قوات الاحتلال الأمريكي بمدهم بالمال والسلاح، سواء بطريقة مباشرة أو عبر الحكومة العراقية، لوحدة الهدف المشترك الذي يجمعها وهذه المجالس، خاصة ما يتعلق بمحاربة تنظيم القاعدة. ونجحت مجالس الصحوة في تقليل نفوذ القاعدة واستئصالها، وساعدهم أكثر قيام الولايات المتحدة بقتل زعيم التنظيم الزرقاوي في غارة جوية ليتفرق أفراد الجماعات الإرهابية وينفض سامرهم عام 2007. نهاية الصحوات عاش أهل المدينة فترة هدوء نسبي عندما سيطرت الصحوات على العمل العسكري والأمني في المدينة، إلى جانب العمل التنفيذي في محافظة صلاح الدين والأنبار لتشهد المدينة استقراراً نسبياً دام إلى بداية عام 2011، وحسب تصريحات قيادة شرطة الفلوجة فقد عاد (155,000 شخص) من النازحين إلى الفلوجة خلال عامي 2007م-2008. لكن إيران التي كانت لا تعجبها هذه الحال أوعزت إلى رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي بحل الصحوات والإحجام عن تقديم الدعم لها. وكانت النتيجة الحتمية لذلك ظهور تنظيم داعش، الذي تكون من بعض الأفراد الذين كانوا مع الزرقاوي مثل أبوبكر البغدادي، وأعلنوا تنظيمهم في سوريا، وسرعان ما امتد التنظيم، مستفيداً من حالة الحنق لدى بعض طوائف الشعب العراقي من سيطرة طائفة بعينها على الحكم في بغداد، واستهداف الرموز أمثال نائب الرئيس طارق الهاشمي، ومع ضعف الدولة في المنطقة الخضراء، استطاع التنظيم الانتشار والعودة إلى العراق بعد خروج القوات الأمريكية وتسليمها العراق بشكل غير مباشر إلى إيران. شر مستطير استفاد البغدادي من كل هذه الظروف لينجح في عام 2014 من السيطرة على مدينة الموصل ليتمدد ويحتل مدينة الفلوجة الموجود فيها إلى اليوم لتعود المدينة إلى عهود التيه والظلام وقوانين القرون الوسطى التي وضعها تنظيم داعش طوال عامي 2014-2015. ومع مطلع هذا العام بدأت الترتيبات لإخراج التنظيم من المدينة، ولكن السمعة السيئة التي خلفها الحشد الشعبي بعد دخوله مدينة تكريت، والتي وثق لها المركز الوطني للعدالة بدلائل موثقة على أن 8000 منزل داخل تكريت قد تعرضت للنهب والسلب ثم التدمير بالعبوات الناسفة متهماً الميليشيات بارتكاب انتهاكات ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، جعلت أهالي الفلوجة يرفضون مشاركة مليشيا الحشد الشعبي في تحرير المدينة، مستدلين بتقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2015، والذي جاء فيه: إن الميليشيات المدعومة من الحكومة العراقية نفذت أعمال تدمير موسعة لبيوت ومتاجر في شتى أرجاء مدينة تكريت في شهري مارس/آذار و إبريل/نيسان 2015، في خرق لقوانين الحرب. دمر عناصر من الميليشيات عمداً مئات البنايات المدنية دون سبب عسكري ظاهر، بعد انسحاب داعش من المنطقة، وذلك في تقريرها بعنوان دمار بعد المعركة: انتهاكات الميليشيات العراقية بعد استعادة تكريت، الصادر في 60 صفحة، مدعوماً بصور القمر الصناعي للتثبت من شهادات الشهود الذين أفادوا بالدمار اللاحق بالبيوت والمتاجر في تكريت، وفي بلدات البوعجيل والعلم والدور. ويشير التقرير إلى أنه بعد فرار عناصر داعش، قامت كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق باختطاف أكثر من 200 من السكان السنة، بينهم أطفال، وذلك على مقربة من الدور، جنوب تكريت. 160 شخصاً على الأقل من هؤلاء المختطفين لا يزال مصيرهم مجهولاً. الحشد العشائري رفض أهالي الفلوجة ومحافظة صلاح الدين لمليشيا الحشد الشعبي قادهم لتكوين ما بات يعرف بالحشد العشائري للمساهمة في معركة تحرير المدينة التي انطلقت قبل أيام ويقدر عدد المشاركين منهم في المعركة بسبعة آلاف دربتهم الحكومة العراقية وسلحتهم بخمسة آلاف بندقية. ورغم أن عناصر العشائر عموماً لم يتلقوا تدريباً ولا أسلحة ثقيلة، فإنهم يعرفون المنطقة وسكانها، حيث جرى الاتفاق على أن يتسلموا المدينة فور تحريرها إلى جانب قوات الشرطة والجيش العراقي على أن تبقى مليشيا الحشد الشعبي سيئة السمعة خارج مدينة الفلوجة، حيث رفض اتحاد العشائر العربية في الأنبار، مشاركة مليشيا الحشد الشعبي في المعاركة الدائرة في محيط المدينة . وعقد عدد من شيوخ محافظة الأنبار مؤتمراً صحفياً في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، نددوا فيه بمشاركة الميليشيات الموالية للحكومة في العمليات العسكرية الرامية إلى تحرير الفلوجة، ودعا الاتحاد إلى منع مشاركة الحشد الشعبي في تحرير المدينة، محذرين من لجوء المليشيات إلى عمليات انتقامية بحق المدنيين وتدمير المدينة . وقال راجع بركات، عضو اللجنة الأمنية في مجلس المحافظة، إن عناصر الحشد الشعبي، شنوا عمليات قصف عشوائية على مدينة الفلوجة بوساطة الصواريخ، أسفرت عن وقوع خسائر مادية وبشرية بين المدنيين بالمدينة. وفي السياق، قالت مصادر في الحشد العشائري وشهود عيان إن مليشيات الحشد الشعبي فجّرت جامع الكرمة الكبير وحرقت دائرة الجنسية والأحوال المدنية وسط بلدة الكرمة قرب الفلوجة، وانها تقوم بعمليات سلب ونهب وإحراق منازل المدنيين بالبلدة وقادت كل هذه الفظائع إلى انسحاب مقاتلي الحشد العشائري من المعارك ضد تنظيم داعش، بسبب عدم التزام مليشيات الحشد بالأوامر الصادرة إليهم من الجيش بوقف القصف المدفعي العشوائي المستمر على المدينة. وتدور منذ أسبوع أعنف المعارك على محيط مدينة الفلوجة المحاصرة تماماً، وعاد أهل المدينة لسماع أصوات القصف المدفعي والجوي، الذي تعودوا عليه لسنوات، لكن الحكومة العراقية طلبت من المواطنين عدم البقاء في مناطق تمركز تنظيم داعش، وطلب منهم وضع أعلام بيضاء على أسطح منازلهم لتفادي القصف الجوي ، وإلى ذلك الحين يعيش سكان المدينة في رعب بالغ خوفاً من أن تحل ميليشيا الحشد الشعبي محل تنظيم داعش، خاصة بعد أن راجت معلومات عن وجود الجنرال الإيراني سيء السمعة، قاسم سليماني على رأس ميليشيا الحشد، وهو الذي يكن عداء قديماً لأهل المدينة، ما جعلهم يخشون من أن تقوم مليشيا الحشد بمعاقبة أهل المدينة ويكونون كما المستجير من الرمضاء بالنار. 50 ألفاً يواجهون مصيراً مجهولاً يواجه أكثر من خمسين ألف مدني يعيشون داخل الفلوجة، مصيراً مجهولاً مع اشتداد معارك الجيش العراقي والميليشيات المساندة له لطرد تنظيم داعش من المدينة. وتشهد المدينة حالة الحصار وانعدام الدواء والغذاء، وحتى مياه الشرب النقية، فضلاً عن مختلف أنواع المخاطر جراء القصف المكثف. ورغم إعلان الحكومة العراقية أنها جهزت أربعة ممرات إنسانية للخروج من الفلوجة، فلم يخرج سوى ثمانمئة شخص من مناطق في محيط المدينة، في وقت ترى منظمات دولية أن هذه الممرات ليست آمنة. وحثت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين طرفي الصراع في الفلوجة على تجنيب المدنيين واقعاً مراً، ودعتهما إلى استثناء الممرات الآمنة المفترضة من أي قصف، أو استهداف. ووردت أنباء عن سقوط المزيد من المدنيين داخل المدينة، في وقت يستمر استقبال العائلات النازحة من الفلوجة وضواحيها إلى مخيمات تديرها منظمات دولية. ودعت مفوضية اللاجئين القوات الحكومية وتنظيم داعش إلى تجنيب المدنيين في الفلوجة المعارك الدائرة بينهما، وقال المتحدث باسم المفوضية محمد أبو عساكر، إن الأوضاع مأساوية داخل الفلوجة التي تضم أكثر من خمسين ألف شخص ما زالوا عالقين. ووفق المجلس النرويجي للاجئين، فإن أكثر الأسر التي نزحت من ضواحي الفلوجة إلى مخيم النازحين منذ 21 مايو/ أيار الحالي كانت من مناطق أجميلة (59) والبوحاتم (52) والسجر والكرمة (51) والبويوسف (45).
مشاركة :