تعثرت وسائل الإعلام الدولية في وصف نوربرت هوفر، المرشح الذي خسر بفارق اصوات قليلة، السباق الرئاسي النمساوي. ويعارض هوفر الهجرة ويتوسل خطاب الحنين الى الثقافة الألمانية. ومثل هذه المواقف تدرجه في خانة اليمين المتطرف في السياسة الأوروبية. ولكنه يندد وحزب «فريدوم بارتي» («حزب الحرية») بالإجماع الاقتصادي الـ «نيوليبرالي»، ويشجب سيئات الرأسمالية الدولية. وهذه المواقف تنسبه الى اليسار المتطرف في السياسة الأوروبية. وهذا جمع ملتبس ومربك بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. لذا، اقترح في وصف هوفر وحزبه «الاجتماعي الوطني»، تسمية «القومية الاشتراكية» واستلالها من رماد الحرب العالمية الثانية. ولا أقصد بالقومية الاشتراكية النازية أو الهولوكوست أو الفاشية، بل الفلسفة السياسية التي تجمع «القومية» - الإيمان بتفوق مجموعة المرء الإتنية أو تفوق الدولة - الأمة التي ينتمي إليها ورجحان كفتها - إلى «الاشتراكية»، التي تقضي في هذا السياق بتدخل الدولة في الاقتصاد القومي من غير قيد وفي مجالات اخرى. وفي العقود الماضية، لم يذع الجمع بين هذه الأفكار أو الرؤى في أوروبا وشمال أميركا، وكانت كتلاً منفصلة. فالاشتراكيون، في الصيغة الأوروبية ما بعد الحرب، كانوا في معظمهم أمميين. وكان الاشتراكيون الماركسيون يرون أن النصر سيكتب للديكتاتورية البروليتارية الدولية. ورفع الاشتراكيون الديموقراطيون لواء الاندماج الأوروبي والتعاون. ودار كلام المحافظين على القيم القومية التقليدية أو القيم التقليدية. ولكن في العالم الأنغلو - ساكسوني، ربطت هذه الأفكار بفلسفة اقتصادية ليبيرالية وحدود مشرعة الأبواب. وفي أوروبا القارية، دعم «المسيحيون الديموقراطيون» الاتحاد الأوروبي واندماج الأسواق. وفيما خلا إسبانيا فرانكو وبرتغال سالازار، لم يكن ثمة رابط بين القومية المتطرفة وتدخل الدولة في السياسة، طوال شطر راجح من نصف القرن المنصرم. ولكن هذا الانفصال لم يعد قائماً اليوم. ففي أوروبا كلها، الأحزاب التي عُرفت بـ«اليمين المتطرف» تغير جلدها، وتنتهج سياسة وخطاباً كانا يوصفان الى وقت قريب بالماركسية. فمارين لوبن، رئيسة «الجبهة الوطنية» الفرنسية، تنظّم تجمعات سنوية في الواحد من أيار (مايو). وتهاجم لوبن السياسات «النيوليبرالية» و«النخب المعولمة»، وتدعو الى صدارة «دولة قوية» تفرض الضرائب على المستوردات، وتلتزم سياسات حمائية وتؤمم الشركات الأجنبية والمصارف. وترغب زعيمة «الجبهة الوطنية» في ان تنسحب بلادها من الاتحاد الأوروبي والـ «ناتو». وليس بعث القومية من جديد عبارة رنانة فحسب، فهو سياسة رسمية حكومية في هنغاريا. واليوم، رئيس وزراء هنغاريا، فيكتور أوربان، انقلب من تأييد السوق الحرة، الى الهجوم على الاتحاد الأوروبي، وصار يتكلم بعاطفية خيالية عن مصير بلاده. وهو يتوسل بضرائب تأديبية وقوانين لإبعاد المصارف الأجنبية. ويوجه حزب «القانون والعدالة» دفة حكومة بولندا التي يدور كلامها على تأميم المصارف ووسائل الإعلام الأجنبية وجعلها «بولندية». وتجمع الحكومة البولندية الخطاب القومي الى السياسات الاقتصادية الاشتراكية في جملة واحدة. وما كان يصنف وعوداً يسارية برفع الإنفاق الاجتماعي صار اليوم وعد اليمين الجديد. وشأن الأحزاب الإسكندينافية القومية - وحزب «الشعب الدنماركي» و»السويديين الديموقراطيين»، ينادي حزب «يوكاي أندبندنس» الذي يرغب في انسحاب بريطانيا من أوروبا، بتوسيع دولة الرعاية. وهذه الأحزاب تريد أن يقتصر الإنفاق الحكومي على البريطانيين الأقحاح ونظرائهم من الدنماركيين والسويديين. وغالباً ما يُنسب بروز هذه الأحزاب إلى الرد على موجات المهاجرين من سورية وشمال أفريقيا إلى أوروبا. ويُغفل أن هذه الأحزاب القومية الاشتراكية تجذب إليها ناخبين سئموا الاشتراكية المنفتحة على عالم الأعمال التي ينتهجها اليسار الوسطي وملّوا براغماتية اليمين الوسطي. وقد يكون مردّ هذه الظاهرة إلى مرور الزمن ونشأة جيل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم يعرف اوروبا المقسمة. ويبدو ان من لا يذكر المركزية والتأميم والحمائية يحسِب انها افكار جديدة واعدة. وقلة يتذكرون ما جلبته هذه السياسات من ويلات الفقر والفساد. وأقل منهم هو عدد الذين يتذكرون ما حدث في المرة الأخيرة التي جمعت فيها دول اوروبية بين الإيديولوجيا القومية وسيطرة الدولة على الاقتصاد. ويعصى على الخيال التفكير في عودة الحدود إلى أوروبا والحواجز التجارية. ولكن لا ترتجى فائدة من التحذير أو التنبيه إلى دروس الماضي وعِبر التاريخ. فمرور الوقت يحيل الماضي إلى كليشيه (فكرة مبتذلة وبائتة)، وإلى قصة خسرت مغذاها من كثرة التكرار. فالناس يريدون أن تعود عليهم السياسة بعوائد انفعالية، ولا يرغبون في أن تقتصر السياسة على الإدارة الاقتصادية. ونتائج الانتخابات النمساوية لم تجر على ما اشتهت الموجة القومية الاشتراكية، ولكن السياسات هذه لن تتبدد. فمد الثورة انحسر في النمسا، ولكنها لم تخمد. * محللة، مؤرخة، عن «واشنطن بوست» الأميركية، 23/5/2016، إعداد منال نحاس
مشاركة :