الوجع العراقي اليومي في قصص كريم عبد

  • 6/2/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بعد مجموعات قصصية عدّة مثل «الهواء يوشك على الوجوم»، «عزف عود بغدادي» و»خرزة زرقاء»، تأتي مجموعة «العيون السود» (دار شُبَّر - لندن، 2016) لتُكرّس مشروع كريم عبد في الكتابة القصصية. تضمّ هذه المجموعة عشر قصص قصيرة، إضافة إلى نوفيلا محبوكة بإحكام بالغ يجعل منها عملًا متكاملَ العناصر، كان بإمكانه أن ينفلش ليصبح عملاً روائيًا مثلما نرى في بعض الأعمال الروائية الراهنة، وهي القضية التي طالما أثارها الكاتب وفق ما جاء في التوطئة التي كتبها الأستاذ عدنان السيد أحمد على الجهة الخلفية للغلاف. إلا أن القاصّ، وانطلاقًا من قناعته هذه، ضمّن كل نصّ من نصوصه عناصر الحبكة الدرامية الأساسية لنسج الحكاية وقولبتها في جسم قصصي موجز لا يخلو من الإثارة نظرًا الى كثافة المضمون. سيكولوجيات ومع أنّ الحبكة السيكولوجية لشخصيات القصص والربط بين تدرجات عوامل الخوف واليأس وما قد تودي إليه في النفوس بدت متقنة على امتداد قصص المجموعة، ظلّت الأخطاء المطبعية والإملائية والإعرابية هي الثغرة التي تشوب العمل، حتى يكاد القارئ يسأل من فرط وفرتها عما إذا تمت مراجعة الكتاب قبل إصداره. واختار الكاتب أن يمزج في حواراته بين أبطاله باللهجة المحكية تارة والنحوية تارةً أخرى في القطعة نفسها. في «زيارة» خاطفة إلى حلب جلّ ما يزعج صديق فاضل هو كلبة صغيرة تلاحقه في زوايا المنزل، لا يتردد في الحديث عن عقدته من الكلاب التي رافقته منذ الطفولة، وينتقل الكاتب بالصديقين من هذا الخط الدرامي السيكولوجي ليصل بهما الحديث إلى ما قد يعتري النفس من خلل يودي بها إلى الانتحار، من خلال البحث في الأسباب التي من المحتمل أن تكون أدت إلى انتحار الرسام المعروف لؤي الكيالي بُعيد هزيمة حزيران (يونيو) عام 1967، بحيث يعمل فاضل على مشروع سيناريو فيلم تسجيلي عنه. أما «المهمة السرية» فهي تلك التي يسندها القريب أبو محمود إلى الطفل لاصطحاب مسدس ملفوف بمنشفة من منزل شاهين العبد الله وما سيعيشه الصبي من مغامرة مع «الرجل الساقط» الذي يعترض طريقه، خصوصًا مع ما قد يعنيه السلاح في مجتمع قائم على الخوف والذعر والقمع والاستبداد والقتل المجاني. وضمن المجموعة أيضًا سرديات جميلة مثل «العيون السود»، ويتحدث فيها رجل عن حياته بكل ما كان يعتريها من وساوس وحساسية تجعل العيش أقرب إلى العقاب اليومي، ويحكي كيف انقلبت حياته مع دخول زوجته إليها، إلى أن أخفق مجددًا فنفض دودة القز عن قدمه على الجدار وبقيت نظرة عينيها السوداوين عالقة في ذهنه تتبعه. يمعن كريم عبد في وصف حالة أبطاله والطقوس المحيطة بالحكاية فيصحبك بالسينوغرافيا المكتوبة متوغّلًا في التعبير عن حالتهم النفسية وما يترتب عنها من أبعاد سيكولوجية: «ودَّت لو أن العصافير تنفض المياه على وجهها وأيامها، لكن العصافير لا تفهم شيئًا... العصافير تسقط نفسها في المياه وتنهض منتفضة في لعبة لا تنتهي، لكن تنّور الروح المعبّأ بالحطب، المتهدم من أطرافه بدأت تضطرم فيه النار» - ودَّتْ لو تجلس على الرصيف، (ص 38). وفي «البيت القديم»، يجلس حمدان الشيخ في فراشه يهذي بعد فقدان زوجته واعترافه بجريمة قد يكون ارتكبها سابقًا. ذاك الاعتراف الذي كان يكرره فقط في كل مرة راح يهذي فيها، ووقع الصدمة على أبنائه حيث وصف كيف طعن الضحية وأرداه قتيلًا. وعلى رغم أنه راح يتحدث عن حيثيات الجريمة إلا أنّ ذلك لا يلغي فرضية عدم ارتكاب الرجل لها، بحيث قد يعود هذيانه إلى رغبة ما في الانتقام وهذا ما يبرر ربما تلذذه في وصف أدق تفاصيل العمل الجرمي. يعكس المناخ العام المحيط بأجواء هذه الأعمال القصصية هذا المجتمع المقموع في ظل نظام استبدادي يصبح معه الموت مصيرًا ينتظر الكثيرين، وقد يكون أحيانًا أرحم مما يخلّفه التعذيب من آلام بحيث لا تترَك الضحية قبل تحطيمها بالكامل، مجتمع يسهل فيه أن يتحوّل الضحية إلى جلاد وعلى الجلاد أن يقدم فروض الطاعة العمياء كي يبقى على قيد الحياة. لعبة تتأرجح بين الموت والحياة وعذابات كثيرة ترتبط بكليهما. يتوغل كريم عبد في «ضجيج البساتين» و»رائحة البيت» في عمق اليوميات العراقية حيث يختلط المجتمعي بالسياسي والعائلي والعادات والتقاليد، راسمًا أبعادًا سيكولوجية لشخصياته بحرفية عالية تجعلها تنبض في قوالب القصة حتى يروح الإنسان إلى ما هو أبعد من الموت، فلا يترقب موته فحسب بل يتعامل مع ما سوف يليه: « لقد مت. لكنَّني لا أريد تصديق هذه الحقيقة. لقد وضعوني في القبر وأغلقوه عليَّ. لماذا لم يتركوه مفتوحًا لعليَّ أستطيع الهرب؟»... (ص 88). الخط الدرامي أما في «أيام بغداد 1973» فيخشى الكاتب أن يتبادل السلام مع صديقه الشيوعي حسين العبد الله في الحافلة، ويعلل الكاتب الأسباب التي حدت به إلى ذلك: «لقد حذرت منه! خفت من ورطة محتملة! فرغم أنني لم أكن حزبيًا، ما عدا صداقاتي مع بعض الشيوعيين، وربما تعجبني بعض أفكارهم، لكن ما يربطني بهم هو كراهيتي لسلطة انقلاب شباط 1963، للبعثيين، لتخلفهم، وادعاءاتهم السمجة ونزعتهم الفاشية المرعبة»، (ص 94). ولعل الخطّ الدرامي الذي يمعن في التراجيديا لنوفيلا «ملاحقة الأشباح» يحيك خيوطه مما مهّد له الكاتب في القصص الأخرى من وصف للحالات النفسية والسياسية والإنسانية في مختلف القصص التي أسس لكل منها خطًا دراميًا مستقلًا، إنما منسجمًا مع أسلوبه في حبك العقدة ورصد تفاعلات أبطاله. القاتل سلطان الحداد هو رجل أمن سابق ممن يمتهنون تعذيب الآخرين وقتلهم، وجواد حسين هو أحد ضحاياه؛ أما إحسان جواد حسين فهو صديق سلطان الحداد الذي اختبأ في منزله لدى اندلاع الانتفاضة، فما كان من وسام العبد الله إلا أن ذهب وأخبر إحسان بالحقيقة، معرّيًا جريمة رجل الأمن المتقاعد: «انزلق ساقطًا وسط الأوحال، حاول أن ينهض رافعًا يديه لكنه تعثّر ساقطًا إلى الوراء، بعد أن أخذته قوة الأوحال إلى عمقها صار يغطس شيئًا فشيئًا وسط النفايات والطحالب والقاذورات الطافية». (ص 153).

مشاركة :