يتشابه الفيلم اللبناني «ربيع» أو «ترامونتان» TRAMONTANE- عنوانه باللغة الإنكليزية - مع رواية «بلا دماء» للمؤلف الإيطالي أليساندرو باريكو، في أن الأحداث تدور في ما بعد الحرب بكل ما خلفته من دمار نفسي واجتماعي، وأن من قتل أسرة البطل «ربيع» - المطرب الأعمى - هو نفسه من أنقذه وقام بتربيته منذ كان رضيعاً بعد أن قرر له أن يعيش بدلاً من أن يُقتل مع والديه. أُنجز الفيلم عن طريق الإنتاج اللبناني الفرنسي القطري الإماراتي المشترك، وشارك في مسابقة أسبوع النقاد الخامس والخمسين - الموازي للبرنامج الرسمي في مهرجان كان السينمائي في دورته التاسعة والستين -، وفاز هناك بجائزة «السكة الذهبية» التي تُنظم منذ 22 سنة وتُمنح من جمعية موظفي السكك الحديد المحبين للسينما. الميزة الأهم بالفيلم والتي أنقذته من الركاكة هو الصوت الجميل للمطرب الكفيف بالفعل، وقدرته على أداء تلك الأغنيات المنتمية إلى عصر الطرب الأصيل بإجادة وصوت عذب. أما التيمة الرئيسية وهي البحث عن الهوية والجذور فقد جاءت شديدة السطحية والمباشرة، واستلب منها أي أبعاد اجتماعية وإنسانية ذات قيمة، وذلك بعدما كان أمام المخرج والمؤلف اللبناني فاتشي بولفورجيان فرصة بارعة لمناقشة وضعية بلد مزقته الحرب الأهلية التي خلفت وراءها جيلاً، كثير منه ضائع مشوه الهوية، على الأخص في ظل وجود مشاهد متعددة تنهض على جولات بالسيارة في الجنوب والشمال اللبناني. وذلك الى جانب أحاديث وحوارات عن ملاجئ تبنت ضحايا الحرب، وعن شخصيات من الأرمن تعرضوا للمذابح. لكن لا شيء من هذا تم الحفر والتنقيب فيه أو سبر أغواره، فقط مجرد إشارات أو حكايات تناقض بعضها بعضاً أثناء محاولة هذا الشاب أن يفك لغز عائلته وإصراره على معرفة أصوله ووالديه الحقيقيين. مأزق البداية يبدأ مأزق ربيع عندما تجيئه فرصة السفر لأوروبا ضمن فرقته الموسيقية لإحياء بعض الحفلات، فيذهب لاستخراج جواز السفر لكنه يكتشف في مخفر الشرطة أن بطاقة الهوية التي حملها طوال تلك السنوات مزيفة. ومع البحث والتنقيب والإصرار، تعترف الأم أنها ليست أمه لكنها أيضاً لا تعرف مَنْ هي عائلته الحقيقية. فأخوها الذي كان يعمل في القطاع الأمني هو الذي أحضره طفلاً. وهنا تستولي على ربيع رغبة قوية وإصرار في معرفة جذوره والوصول إلى أمه وأبيه الحقيقيين، فيلتقي بأناس كل منهم يحكي حكايته هو، وعندما يصل إلى من يتضح بنسبة كبيرة جداً أنهما جداه يتنصل الرجل والمرأة وينفيان ذلك، بينما كل الشواهد تُؤكد ذلك. وهنا يُصبح من المثير للدهشة أن الجد والجدة يرفضان استعادة حفيدهما، وينكران صلتهما به، ويعتبرانه ضمن الأموات! تصرف غريب من بشر فقدوا ذويهم وفجأة اكتشفوا وجود بقايا من عطرهم متمثلاً في الحفيد! إنه سلوك درامي تم رسمه في شكل متعسف من أجل الترميز، فهل كان هذا حتى يقال إن هذا الجيل الشاب من دون هوية حقيقية، وأن الأجيال السابقة تخلت عنه؟ وأن القاتل هو نفسه المنقذ؟. فذلك الخال الذي أنهى حياة والدي ربيع الحقيقيين هو نفسه الذي أنقذه وقرر له أن يعيش حين كان رضيعاً. الفارق الأساسي والجوهري بين الرواية الإيطالية والفيلم اللبناني أن البطل عند باريكو كان امرأة اسمها تينا قُتل أفراد أسرتها على مسمعها عندما كانت طفلة، ثم تعود لاحقاً بعد سنوات طويلة لإطفاء جحيمها بالانتقام ممن سلب حياة أبيها وأخيها فتقتلهم واحداً تلو الآخر من دون قطرة دماء، لكن فكرة الانتقام تتخذ منحى آخر عندما تتعلق بـ «تيتو» الشخص الذي أنقذها والذي تكتم وجودها في المخبأ السري بعد أن تلتقي نظراتهما فتُصبح العين في العين لبرهة من الزمن لن تنساها تينا ولن ينساها تيتو. وسيظل يتوقع استعادتها وقدومها كلما وصله خبر قتل أحد رفاقه في ذلك اليوم البعيد، وكأنه مستسلم لقدره تماماً. هنا، ومع هذا الرجل الذي كان صبياً أيضاً عندما أنقذها، تصبح فكرة الانتقام متقاطعة أو بالأحرى متصارعة مع فكرة العرفان بالجميل، فهل تنتقم تينا لمقتل عائلتها وتتخلص من آخر دوائر الجحيم أم تعفو وتطهر نفسها باستعادة تلك النظرة لمن حماها وأنكر وجودها طفلة لئلا تُؤخذ منها الحياة؟ سينما التخلّي هذا في الرواية الإيطالية إذاً، أما الفيلم اللبناني فيتخلى عن كل هذا العمق الناجم عن الصراع والمواجهة، عن تلك المشاعر المتناقضة بين الحب والكره في آن، يتخلي عن تجسيد الأحقاد الناجمة عن الحرب، كأنما ينفي وجودها أو تحولها إلى حالات ثأرية، مثلما يتجنب الإشارة إلى أي تمزق نفسي للبطل بين الرغبة في الثأر وبين مشاعر العفو، إذ يكتفي بأحاسيس الغضب والحزن والإصرار على مواصلة البحث عن هويته. وحين يبلغ مراده يعود إلى المرأة التي ربته من دون أن نرى مشهداً يُواجه فيه الخال القاتل المنقذ، بل يستسلم ربيع في انتهازية واضحة لتلك المساعدة من خاله المزيف إذ وفر له بطاقة هوية جديدة مزيفة أيضاً. الفارق أيضاً بين العملين الروائي والسينمائي أنه في حين ابتعد باريكو عن «أين» و «متى» مكتفياً بـ «لماذا»، فإن مخرج «ربيع» فعل العكس تماماً ما جرّد شريطه السينمائي من مستويات الوعي والعمق وجعله ينزلق بسهولة نحو الفراغ الذي كانت «لماذا» وحدها قادرة على انتشاله منه.
مشاركة :