حرية التعبير لم تعد مجرد غاية لذاتها، بل تحولت خناقة مستعرة وأدوات ضغط مشتعلة وضربات من تحت الحزام مفتعلة، ووسيلة قياس وطنية هذا وخيانة ذاك وعمالة هؤلاء، ومصدر رزق لمجموعات عدة وحائط مبكى لجماعات كثيرة وجزرة تلوح في نهاية العصا، والخاسر الأكبر هي نفسها. الجميع يتحدث عنها وبها ولها، لكن الدلائل والبشائر والنتائج تشير إلى إنها لم تعد إلا وسيلة، وليست غاية. غاية ما كان يحلم به المصريون أن يصبح لديهم قناتان بدل القناة، وجريدتان بدل الجريدة، وإذاعتان بدل الإذاعة، لكن انشطار الأعداد وتفجر الكميات وتخمة الأثير بأنواعه بآلاف المنصات الناطقة والمسموعة والمقروءة لم يعد غاية المنى والأمل، بل تحول صداعاً في الرأس وضربة في القلب. تقليب القنوات التلفزيونية ليلاً حيث تخمة برامج «توك شو»، وتصفح الصحف نهاراً ينسي المتصفح أسماء الجرائد وعناوينها لكثرتها، ومتابعة المواقع العنكبوتية طيلة ساعات الليل والنهار يضرب رأس المتابع في مقتل حيث الشيء وضده، والشجب والتهليل للقرار ذاته، والدعم والتشكيك في الشخص ذاته، والتأكيد على أن العصر الحالي هو الأفضل والأسوأ في الصفحة نفسها، ما يعطي المصري شعوراً يصفه بعضهم بـ «الكاذب» وبعضهم بـ «الامتلاء» وفريق ثالث بـ «الفوضى» ورابع بـ «التعددية». تعدد المنصات والساحات والقنوات والصحف والمواقع حيث يعبر الجميع، سواء العاملين في الإعلام أو المواطنين العاديين، عما تجيش به الصدور، أو تضيق به القلوب، أو تمليه الجهة التي ملأت الجيوب يراها بعضهم حرية تعبير، حيث اليد العليا للكم، لكن ينتقدها بعضهم من باب أن «العدد في الليمون»، والكثرة لا تعني الحرية، بل ربما تؤدي إلى عكسها. وبين أزمة كانت كامنة ثم عادت لتصبح صاخبة بين نقابة الصحافيين من جهة ووزارة الداخلية والنظام من جهة، واندماج لقنوات فضائية يُعتقد بأنها تصب لمصلحة توحيد صوت الإعلام، لا سيما في ظل ما يتردد عن تقارب بين المالك الجديد وأجهزة الدولة، وتكرار حديث إعلاميين معروفين عن ضرورة مواجهة الإرهاب وتطويق الأخطار ومجابهة المخططات والمؤامرات بـ «توحيد الصف» (وهو التوحيد الذي بات على الأرجح يعني توحيد الصوت والقول والفعل)، وحلقات مسلسلة أبطالها صحافيون ورسامو كاريكاتير وأعضاء فرق شبابية وناشطو إنترنت ومقاهي وسط البلد حيث لعبة قط وفأر بينهم وبين الداخلية، تدور نقاشات وتكهنات في دوائر مغلقة وأخرى مفرغة في شأن ما ستؤول إليه أوضاع حرية التعبير وأحوال الحريات بصفة عامة. وبينما تظل نتائج التكهنات في علم الغيب، يرقص إعلاميون على جثة المهنية تارة بحلقة ساخنة يتشابك فيها الضيوف ضرباً بالأيدي، أو يتفننون في نعت هذا بأقبح الألفاظ أو شتم ذاك بأسوأ السباب، أو استضافة شخص ينعت النساء بالفجور، أو يعرض مقطعاً من لعبة عنكبوتية باعتبارها تدريباً عسكرياً، وهو الرقص الهادف إلى جمع أكبر عدد ممكن من المشاركات على «يوتيوب» و «فايسبوك» و «تويتر»، حتى لو كان ذلك على سبيل الانتقاد والسخرية وضرب المثال على السوقية والعشوائية. وبينما تظل العبرة بالمشاركات والإعجابات لدى هؤلاء، تظل العبرة بالشجب والإدانة وإبداء القلق لدى أولئك. البيان الصادر عن الاتحاد الأوروبي قبل يومين لإبداء القلق من الاتهام الموجه إلى كل من نقيب الصحافيين والأمين العام للنقابة ووكيلها «بعد غارة غير مسبوقة من قوات الأمن» تعكس «قيوداً أوسع على حرية التعبير والصحافة في مصر». تجمعت قوى متضادة ومتناقضة على حب هذا البيان والتهليل له واتخاذه نبراساً ينير الطريق على صعيدين مغايرين أحدهما «إخواني» إسلامي سياسي، والآخر ثوري معارض غاضب. أذرع الجماعة المختلفة من صحف ناطقة بهواها باللغتين العربية والإنكليزية وقنوات تحمل عبقها وتدوينات وتغريدات تمتزج بألوان الشرعية والشريعة اعتبرت القلق الأوروبي ومعه قلق الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون دليلاً على فشل الدولة وإخفاق الرئيس وديكتاتورية النظام، حيث القمع هو السائد والإطباق على الحريات هو المسيطر، مطالبة بتوحيد القوى «الثورية» لإسقاط «الانقلاب». قوى ثورية وأصوات معارضة تشبثت كذلك بالبيان باعتباره قوة داعمة وظهراً حامياً لها في مطالباتها المستمرة بحرية التعبير وقلقها الدائم من التضييق والتطبيل. ولأن هذه القوى ما زالت مبعثرة متشرذمة مكتفية بتدوينة على «فايسبوك» أو تغريدة على «تويتر» أو وقفة على سلالم نقابة، يظل صوتها خافتاً في الشارع مُشكَكاً في نواياه على الأثير التلفزيوني رغم صخبه على أثير العنكبوت. الشبكة العنكبوتية الحافلة بشتى أنواع وصنوف وأشكال الدعم والمعارضة والتشكيك والتدعيم والشيء وضده تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن حرية التعبير باتت أداة وليست غاية. فمن يطالب بحرية التعبير من أجل انتقاد الرئيس والنظام يتم تصنيفه شعبياً وإعلامياً باعتباره خائناً أو عميلاً أو على أقل تقدير مراهقاً ينقصه الإدراك، والعكس صحيح.
مشاركة :