سيف المرواني أو عازف الشجن، اسم جديد على ساحتنا الثقافية، قرأناه كاتبا/ ناشرا لاشجانه التي يعزفها على صفحات الجرائد، والتقنية تربويا/ معلما في واحة تعليمية ذات يوم فلقينا فيه تطلعا نحو الثقافة، وطموحا إلى آفاقه المتجددة، وعزيمة على الدخول من أوسع أبوابها.. وهذه في حد ذاتها- محفزات للتشيؤ والتكون الثقافي والإبداعي. (قراءة في مجموعة قصصية) و قبل عامين –تقريبا- أهداني أول منجزاته المطبوعة، مجموعة قصصية يتوشح غلافها اللون الأسود وتحمل عنوانا حزينا دالا على الشجن/ الحزن الذي يستبطنه هذا المثقف الجميل، وهو: عينان تلبسان ثوب الحزن. قلت له: ولماذا تفتتح أول لقاءاتك بالقراء من باب الشجن/ الحزن؟! ألا من مسحة فرح، ونور أملٍ وسعادة تضيء بها حولك الأيام من حولنا؟! قال لي (إهداء): هذه بعض من حروفي بين يديك، هدهد عليها، وامنحها بريقا من شعاعك!! أي بريق.. وأي شعاع تبقى بعد رحلتك الحزينة؟! سأبدأ مداخلتي مع هذه المجموعة، بالقصة التي اختار عنوانها ليكون عنوانا للمجموعة بكاملها وهي المنشورة في الصفحات 53-55، وهي – بالتأكيد - ذات حمولات نصية جعلت القاص يختارها –وليس سواها- عنوانا للمجموعة. القصة تدور حول رجل مسن.. يحمل سرَّه في جوفه، حاول الراوي العليم أن يكتشف السر فلم يستطع استنطاقه الا في آخر ساعات المحاولات والانتظار فلما بدأ في كشف السر وصلت الحافلة وغادر!! هنا تبدأ لعبة التأويل النقدي فنحن أمام حضور وغياب وخفاء وتجلٍ وظاهر وباطن ويؤكد تلك الثنائيات النصية قول الراوي متسائلا: ياعم غريب لماذا عيناك تلبسان ثوب الحزن؟ فالعينان مثنى، ودال على تلك الثنائيات!! ينفتح أفق هذه القصة على الرجل المسن، والحافلة التي تنقله إلى عالم غير محدد (آخر زاوية من العالم) (وآخر مراحل العمر) (يشير للبعيد) (حافلة تطوف العالم ورحلتها لا تنتهي أبدا). ثم يعود القاص/ الراوي العليم – إلى العينين والدموع ولكنها الآن عيناه هو لا بطل القصة عندها اغرورقت عيناي بالدموع إن لعبة الثنائيات في هذه القصة تحيلنا الى ما يسمى –نقديا- بالثنائيات الضدية، فالرجل عجوز مسن والراوي شاب/ابن والمكان الذي يريد حرارة شمس وبرودة شتاء، والغاية : آخر زاوية من العالم وآخر مراحل العمر... كل هذه الثنائيات تتقابل فتجعله متأزما لا يصل الى فضاءات معرفية تبدأ القصة سرا وتنتهي دون كشف يؤكد ذلك الكيس الثقيل الذي يحمله الرجل المسن ولا يعلم الراوي عنه شيئا؟! إذاً نحن امام اسرار بالتأكيد (حزينة) تنبئ عنها مجموعة من الدلالات القولية: يحمل على كاهله هموما كبيرة.. أطلق زفرة وتنهيدة عميقة.. إن داخله حزن كبير.. تملأ قلبك حزنا وهما.. يسبب له التعب والألم، ولكن الراوي والقصة لم تكشف هذه الأسرار ولازال الغموض يكتنفها حتى الآن!! ولأن القاص اختار ثيمة الحزن والعينان كمدخل عتباتي/ عنواني للمجموعة، فنحن أمام قيميتين: قيمة معنوية وجدانية داخل النفس تحس وتشعر بها وهي قيمة الحزن، والقيمة الأخرى: قيمة مادية محسوسة ينعكس عليها تلك المشاعر الوجدانية وهي قيمة العينان. وبين هاتين القيمتين تتنامى كثير من الثنائيات بحيث لا يعدم القارئ تجليها في أغلب نصوص المجموعة، مما يجعلنا نقول إن هذا الحزن هو الترس الذي تتحرك من خلاله فنيات القص من لغة وتصوير وأوصاف حسية ومعنوية وتشابك لفظي ودلالات رمزية، وأن العيون والدموع هي النواتج المادية التي تكمل المنظومة الإيحائية والدلالات الرامزة!! وبإحصائية دالة ومعبرة نجد أن مفردة الحزن ومرادفاتها تتكرر – وبكثرة- في جميع القصص الثمانية عشرالتي تحويها المجموعة. فمثلا: في القصة الأولى بعنوان إيقاع الأمواج تكرر الحزن( 13) مرة وفي القصة الثانية أحضان الطبيعة تكرر الحزن 11 مرة وفي القصة الأخيرة في النهاية تكررت المفردة ودلالاتها 12 مرة. وهذا يعني أن عنوان المجموعة جاء معبرا عما في داخل النصوص من هيمنة للحزن والسواد والألم والتعب على فضاء الخطاب القصصي. وأخيرا – ستقف القراءة الناقدة - عند إحدى جماليات التعبير الفني في هذه المجموعة، وهي دالة على قدرة القاص على التناص الثقافي، والتلاقح الفكري مع الطروحات المعاصرة. وهذه الجمالية التعبيرية نلحظها في مداخل وافتتاحيات أربع من النصوص القصصية وهي كالتالي: قصة: صرخة صمت ص ص73-43 يفتتحها بقوله: اللحظة: اختفت فيها البسمة الشوارع: مظلمة فيها الأنين بلغ مداه. الوقت: بين غسق وانبلاج ضاعت فيه الخطى. الصورة: ممزقة أصابها الاحتراق والاندحار. الاحساس: مفقود ضاع في رمال الصمت. قصة: ذكرى تلاطمت فيها الأمواج ص ص 57-62 جاء في افتتاحيتها: اللحظة: اندثار ضاع به الصوت. العمر: سنون مليئة بالألم. الوقت: ساعة النسيان والتغربل. المحيط: دمعة تجتمع حولها الأماني. المكان: بقايا جسد أصابه الانهاك. قصة :وجه تبحث عنه الدموع ص ص71-76 يقول في افتتاحيتها: اللحظة: أشرقت فيها الدمعة بانسياب. الوقت: عمر مضى في أروقة الفرح الليل: ستار يهدم كل الأماني الجميلة. المكان: في إحدى روابي الصمت ودياجير الظلام. العنوان: اندثار يرغم على البعد والأنين. قصة: في النهاية ص ص93-96 يفتتحها بقوله: التاريخ: زمن متعب. اليوم: في إطلالة بين الأقواس. الفصل: يعانق الصيف والحرارة.. ويمتد باستدارة.. يخفت ليله ونهاره. اللحظة: ارتحال يثير القلوب. البداية: جدار واه يفصل بين المساحة. من هذا المسرد يتضح أن القاص/ سيف المرواني لديه خبرة بفن الكتابة المسرحية، فهذه الفضاءات النصية/ كمداخل، وجدناها عند كتاب المسرح، وهي ماتسمى -عندهم- ب التقدمة الدرامية وهي تعني: ذلك الجزء الذي يقع في بداية المسرحية في صيغة حدث أو محادثة، وفي هذا المشهد يقدم المؤلف معلومات عن مكان الفعل وزمانه، وعلاقة الشخصيات بعضها ببعض، وفكرةعن الموضوع المعالج، والخلفية الاجتماعية، وبعض الاشارات الى الاحداث السابقة ومن خلال تلك المداخل التي رصدناها آنفا، نجد المكان والزمان والحدث والعلاقات البينية وفكرة الموضوع والخلفية الاجتماعية وكأنها تلخيص وإيجاز للقصة أو إشارة مكثفة إلى مافيها من تفاصيل، مما يجعلنا نقف احتراما لهذه التجربة التناصية في بعدها المعرفي الثقافي. ورغم هذه الجمالية على مستواها العتباتي، لكنها لم تتمدد وتتشظى في النصوص، فظلت قائمة على عودها، منفردة بأبعادها النصوصية والتأويلية، ولم تدخل في النسق الفكري للقصة أو النص القصصي، واكتفت بدورها الافتتاحي فقط، وهذا يعني –دلاليا- أن القاص (المرواني) لم يستثمر الأبعاد التعبيرية الجمالية، ويوظفها في نصوصه بشكل يوحي بالدرامية والحوارية المسرحية داخل الخطاب الفني لقصص المجموعة. وأن القاص المرواني أيضا لم يستثمرها كشفرات مفتاحية فيها إيجاز وتكثيف أو تلخيص يوحي بالتفاصيل، وظلت هذه التعبيرات الجمالبة في ذهنية القاص ملاذا تجديديا صوريا ليس إلا!! ومن هنا فإن التجربة القادمة للقاص (المرواني) إن شاء الله- ستنبني على كثير من تجليات هذه الافتتاحيات وتشظياتها داخل النص الأدبي، وتوظيفها بشكل فاعل (تناصا وتضمينا). وهكذا تتداخلنا مع المجموعة القصصية عينان تلبسان الحزن وتوقفنا عند بعض دلالاتها المضيئة وفضاءاتها العميقة، وإن كنا تجاوزنا كثيرا من الأبعاد النقدية كالعتبات العنوانية وتأويلاتها، والبنية السردية وفنياتها، والشخصيات الرسمية والثانوية وأدوارها، والتداعيات الزمكانية وتجلياتها. وغيرها مما يمكن أن يتوجه إليها النقاد والقراء الذين يتلمسون مكامن الجمال ويبرزوها لنا!!
مشاركة :